الْمُحَاجَّةُ جَارِيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مُمَيِّزَةً مُخَاطِبَةً، أَوْ عَلَى التَّمْثِيلِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا فِي الْمَعَالِمِ أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا فِي الْجَمَادَاتِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْعُقَلَاءِ، لَا يَقِفُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَلَهَا صَلَاةٌ وَتَسْبِيحٌ وَخَشْيَةٌ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، انْتَهَى. وَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِيثَارِ أَيِ اخْتِرْتُ (بِالْمُتَكَبِّرِينَ) أَيْ عَنِ الْحَقِّ (وَالْمُتَجَبِّرِينَ) أَيْ عَلَى الْخَلْقِ بِالتَّسَلُّطِ وَالْقَهْرِ، فَقِيلَ هُنَا بِمَعْنًى، جُمِعَ بَيْنَهِمَا لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ الْمُتَعَظِّمُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَالْمُتَجَبِّرُ الَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يُبَالِي بِأَمْرِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. (وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي) أَيْ فَأَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ لِي (لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ) أَيْ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ (وَسَقَطُهُمْ) بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ أَرْدَؤُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ خُمُولًا، وَأَقَلُّهُمُ اعْتِبَارًا، الْمُحَقَّرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمُ، السَّاقِطُونَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: ٣٧] وَفِي مَوْضِعٍ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: ١١١] وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ عُظَمَاءُ، وَكَذَا عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، فَوَصَفَهُمْ بِالسَّقْطِ وَالضَّعْفِ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ الْأَغْلَبُ. (وَغِرَّتُهُمْ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهِيَ عَدَمُ التَّجْرِبَةِ، أَوْ وُجُودُ الْغَفْلَةِ بِمَعْنَى الَّذِينَ لَا تَجْرِبَةَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا اهْتِمَامَ لَهُمْ بِهَا، أَوِ الَّذِينَ هُمْ غَافِلُونَ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا شَاغِلُونَ بِمُهِمِّ الْعُقْبَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ، أَيْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧] . هَذَا وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: رَوَاهُ الْأَكْثَرُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِرَاءٍ فَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ، أَيْ أَهْلُ الْحَاجَةِ مِنَ الْغَوْثِ وَهُوَ الْجُوعُ، وَرُوِيَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ، أَيِ الْبُلْهُ الْغَافِلُونَ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَجِيمٍ فَزَايٍ مَفْتُوحَاتٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ، جَمْعُ عَاجِزٍ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ، جَمْعُ عَاجِزٍ أَيْضًا.
(قَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ) ابْتَدَأَ بِهَا لِلْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي) وَجَبْرًا لَهَا حَيْثُ انْكَسَرَ بَالُهَا بِمَا لَهَا مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَغُلِبَتْ فِي السُّؤَالِ وَضَعُفَتْ فِي الْجَوَابِ (إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي) أَيْ مَظْهَرُهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: سَمَّى الْجَنَّةَ رَحْمَتَهُ لِأَنَّ بِهَا يَظْهَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: (أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) وَإِلَّا فَرَحْمَةُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ بِهَا مَوْصُوفًا لَيْسَتْ لِلَّهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ، وَلَا اسْمٌ حَادِثٌ فَهُوَ قَدِيمٌ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَفِي الْمَعَالِمِ: الرَّحْمَةُ إِرَادَةُ اللَّهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِهِ، وَقِيلَ: تَرْكُ عُقُوبَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَإِسْدَاءُ الْخَيْرِ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، فَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ صِفَةُ ذَاتٍ، وَعَلَى الثَّانِي صِفَةُ فِعْلٍ. (وَقَالَ) أَيِ اللَّهُ (لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي) أَيْ سَبَبُ عُقُوبَتِي وَمَنْشَأُ سَخَطِي وَغَضَبِي. (أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ مَظَاهِرُ لِلْجَمَالِ وَالْجَلَالِ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَلَا يَظْهَرُ لِأَحَدٍ وَجْهُ تَخْصِيصِ كَلٍّ بِكُلٍّ فِي مَقَامِ الْفَصْلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، وَالْآخَرَ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] (وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا) لِأَنَّ كَمَالَهُمَا فِي مَلْءِ مَآلِهِمَا (فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ) قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: ٣٠] أَيْ فَتَطْلُبُ الزِّيَادَةِ وَلَا تَمْتَلِئُ مِنْ أَهْلِهَا الْمُعَدِّ لَهَا. (حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ) أَيْ فِيهَا أَوْ عَلَيْهَا (رِجْلَهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ: قَدَمَهُ، فَمَذْهَبُ السَّلَفِ التَّسْلِيمُ وَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute