٥٧٠٤ - وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: ٨٩] وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: ٦٣] ، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي: فَأَتَى سَارَةَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبُنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي لِأَنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأُتِيَ بِهَا، قَامَ إِبْرَاهِيمُ يُصَلِّي، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ. فَأُخِذَ - وَيُرْوَى فَغُطَّ - حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدُّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِينِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ يَدَهُ مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
٥٧٠٤ - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ» ") : بِفَتْحِ الذَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ: هُوَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ كَذَبَ كَذْبَةً، كَمَا تَقُولُ رَكَعَ رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ صِفَةً لَسُكِّنَ فِي الْجَمْعِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجَيِّدُ أَنْ يُقَالَ بِفَتْحِ الذَّالِ فِي الْجَمْعِ، أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَصْدَرَ جَاءَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ مَخْصُوصًا بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ كَانَ الْفَتْحُ أَجْوَدُ، هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكَوْكَبِ هَذَا رَبِّي وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ زَمَانَ التَّكْلِيفِ، أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالِاحْتِجَاجِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا الْكَذِبُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا هُوَ طَرِيقُ الْبَلَاغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْهُمْ يَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِأَقْوَالِهِمْ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ، وَيُعَدُّ مِنَ الصَّغَائِرِ كَالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِيرٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَفِي إِمْكَانِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ، وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ. قَالَ عِيَاضٌ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَذِبَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْكَذَبَاتُ الْمَذْكُورَاتُ، فَإِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِكَوْنِهَا فِي صُورَةِ الْكَذِبِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذَبَاتٌ. قُلْتُ: وَوَافَقَهُ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهَا كَذَبَاتٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَارِيضِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِمْ عَنِ الْكِنَايَةِ بِالْحَقِّ، فَيَقَعُ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْكَذِبِ عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ سُمِّيَتْ كَذَبَاتٍ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ فِي (شَرْحِ الْمَشَارِقِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا حَقِيقَةَ الْكَذِبِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْعُذْرِ بِأَنَّ الْكَذِبَ لِلْإِصْلَاحِ جَائِزٌ، فَمَا ظَنُّكَ فِي دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَيْفَ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ، مَعَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ وَمَقَالِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ فِيهِ، وَلَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهُ أَلَا يَرَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ كَذَبَاتِهِ قَوْلَهُ لِسَارَةَ: إِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَقَوْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُخْتَ فِي النَّسَبِ، وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فَإِنَّ اسْتِحَالَةَ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنَ الْجِدِّ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ مُجَوَّزٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ كَذِبًا. قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا فِيهِ قَوْلٌ بِالْمُوقَفِ عَلَى بَلْ فَعَلَهُ وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: كَبِيرُهُمْ هَذَا. (ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ) : بَدَلٌ مِنْ " ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ " (فِي ذَاتِ اللَّهِ) أَيْ: لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَنْزِيهِ ذَاتِهِ عَنِ الشِّرْكِ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْ: فِي كَلَامِهِ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ لِمَا لَمْ يَنْفَكْ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ شَارِحٌ أَيْ: فِي أَمْرِ اللَّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ فِيهِ أَرَبٌ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالْأُولَى أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْقَوْمِ بِهَذَا الْعُذْرِ فَيَعْمَلَ بِالْأَصْنَامِ مَا فَعَلَ، وَبِالثَّانِيَةِ إِلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضُلَّالٌ سُفَهَاءُ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ حَذْفُ الْمُضَافِ أَيْ: فِي كَلَامِ ذَاتِ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّ اثْنَتَيْنِ مَذْكُورَتَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ لِسَارَةَ: هِيَ أُخْتِي.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذِهِ أَيْضًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَةِ فَاحِشَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَرْضَى بِهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَةِ تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ وَدَفْعًا لِحَرَمِهِ، هَذَا وُفِي " الْمُغْرِبِ ": ذُو بِمَعْنَى الصَّاحِبِ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ مَوْصُوفًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ، وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ: امْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ، ثُمَّ اقْتَطَعُوهَا عَنْ مُقْتَضَاهَا، وَأَجْرَوْهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ التَّامَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِأَنْفُسِهَا غَيْرِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَا سِوَاهَا. فَقَالُوا: ذَاتٌ قَدِيمَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ، وَنَسَبُوا إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، فَقَالُوا: الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ وَاسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: كُلُّ شَيْءٍ ذَاتٌ وَكُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: فِي ذَاتِ اللَّهِ أَيْ: فِي الدَّفْعِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا فِيهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَيْ: خَاصَمَ وَجَادَلَ وَذَبَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute