(وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا) أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا كَعَبْدٍ أَيْ: جَامِعًا بَيْنَ وَصْفِ النُّبُوَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَكُنْ أَوِ اخْتَرْ أَوْ فَلَكَ هَذَا (وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا) أَيْ: فَكَذَلِكَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَكَ فَاخْتَرْ مَا شِئْتَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُلُوكِيَّةَ وَكَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَجْتَمِعَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: نَبِيًّا عَبْدًا: خَبَرٌ لِكَوْنٍ مَحْذُوفٍ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا. وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَكُنْ إِيَّاهُ (فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَيْ: نَظَرَ مُشَاوَرَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي مَوْضِعِ اخْتِيَارٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: ٣٠] وَلِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ جُمِعَ لَهُمْ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّهُ هُوَ مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ، كَمَا وَرَدَ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، وَلِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى فَتْحِ الْبِلَادِ وَتَوْسِيعِ الْعِبَادِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. (" فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ") . أَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ وَضَعْ أَمْرٌ مِنْ وَضَعَ، أَوْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي أَشَارَ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَيَّ بِأَنْ حُطَّ نَفْسَكَ عَنْ طَمَعِ مَرْتَبَةِ الْمُلُوكِيَّةِ، وَاخْتَرْ أَنْ تَكُونَ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُ فِي الْمَآلِ أَعْلَى، وَفِي الْمَنَازِلِ أَغْلَى، وَفِي ذَوْقِ الطَّالِبِينَ أَحْلَى، فَإِنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] أَيْ: لِتَظْهَرَ عُبُودِيَّتُهُمْ لِي وَأُلُوهِيَّتِي وَرُبُوبِيَّتِي لَهُمْ كَمَا رَوَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: (كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعَرَّفَ فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لُأَعَرَّفَ) : وَفِي تَقْدِيمِ الشَّرْطِيَّةِ الْأُولَى إِشْعَارٌ بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُ كَابْنِ عَطَاءٍ، وَدَعَا عَلَيْهِ الْجُنَيْدُ بِالْبَلَاءِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْغِطَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute