للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ اللَّهِ وَنَفْسِهِ بِلَفْظِ الضَّمِيرِ فِي مَا سِوَاهُمَا، مَعَ نَهْيِهِ عَنْهُ قَائِلًا وَمِنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَهُ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ: ( «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ» ) . وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِيهَامُ التَّسْوِيَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَوْ جُمِعَ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلِذَا قِيلَ: الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْمَنْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْآخَرَ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالثَّانِي فِعْلٌ، وَقِيلَ: تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَحَبَّتَيْنِ لَا كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا وَحْدَهَا ضَائِعَةٌ لَاغِيَةٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: ٣١] وَالْأَمْرُ بِالْإِفْرَادِ هُنَالِكَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِاسْتِلْزَامِ الْغَوَايَةِ، فَإِنَّ الْعَطْفَ يُفِيدُ تَكْرِيرَ الْعَامِلِ وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ التَّكْرَارِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ غَوَى، وَمَنْ عَصَى رَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى، وَلَا يُقَالُ: عِصْيَانُ أَحَدِهِمَا عِصْيَانٌ لِلْآخَرِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْفِرَادُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ تَفْظِيعُ الْمَعْصِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُجُودُهَا مِنْ رَسُولِهِ وَحْدَهُ لَكَانَتْ مُسْتَقِلَّةً بِالْإِغْوَاءِ، فَكَيْفَ وَهِيَ لَا تُوجَدُ إِلَّا مِنْهُمَا، وَهُوَ مَعْنًى دَقِيقٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ لِطَيْفٌ وَإِنْهَاءٌ شَرِيفٌ إِلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ مَادَّةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْمُغَايَرَةُ، وَلِذَا قِيلَ: أَنَا مَنْ أَهْوَى، وَمَنْ أَهْوَى أَنَا.

وَالْمُخَالَفَةُ مُوجِبَةٌ لِلِافْتِرَاقِ؛ وَلِذَا قَالَ: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) ، وَلِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ عَلَامَاتٌ مِنْ أَظْهَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ أَنْ لَا تَزِيدَ بِالْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا لِصَدِيقٍ جَذَبَتْهُ أَزْمَةُ الْعِنَايَةِ حَتَّى أَوْقَفَتْهُ عَلَى عَتَبَةِ الْوِلَايَةِ، وَأَحَلَّتْهُ فِي رِيَاضِ الشُّهُودِ الْمُطْلَقِ، فَرَأَى أَنَّ مَحْبُوبَهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ مُحَقَّقٌ. [ (وَمَنْ أَحَبَّ) ] أَيْ: وَثَانِيَتُهُمَا مَحَبَّةُ مَنْ أَحَبَّ [ (عَبْدًا) ] أَيْ مَوْسُومًا بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا [ (لَا يُحِبُّهُ) ] أَيْ: لِشَيْءٍ [ (إِلَّا لِلَّهِ) ] ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ أَيْ: لَا يُحِبُّهُ لِغَرَضٍ وَعَرَضٍ وَعِوَضٍ، وَلَا يَشُوبُ مَحَبَّتَهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ وَلَا أَمْرٌ بَشَرِيٌّ، بَلْ مَحَبَّتُهُ تَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَدَاخِلًا فِي الْمُتَحَابِّينَ لِلَّهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ، أَوْ مِنْهُمَا [ (وَمَنْ يَكْرَهُ) ] أَيْ: وَثَالِثَتُهُمَا كَرَاهَةُ مَنْ يَكْرَهُ [ (أَنْ يَعُودَ) ] أَيْ: يَرْجِعَ، أَوْ يَتَحَوَّلَ [ (فِي الْكُفْرِ) ] ، وَقِيلَ: أَنْ يَصِيرَ بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِفِي عَلَى حَدِّ (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) فَيَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ كُفْرٌ أَيْضًا، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ: [ (بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ) ] أَيْ: أَخْلَصَهُ وَنَجَّاهُ مِنَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ أَنْقَذَ بِمَعْنَى حَفَظَ بِالْعِصْمَةِ ابْتِدَاءً بِأَنْ يُولَدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَسْتَمِرَّ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ لَا يَشْمَلُهُ وَلَكِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ بَلِ الْأَوْلَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: ٢٥٧] أَيْ: بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهُوَ يَعُمُّ الِابْتِدَاءَ وَالِانْتِهَاءَ. [ (كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ) ] أَيْ: وَكَرَاهَةُ مَنْ يَكْرَهُ الصَّيْرُورَةَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ كَرَاهَةِ الرَّمْيِ وَالطَّرْحِ فِي النَّارِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَأَنْ تُوقَدَ نَارٌ عَظِيمَةٌ فَيَقَعَ فِيهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّ الْوُقُوعَ فِي نَارِ الدُّنْيَا أَوْلَى بِالْإِيثَارِ مِنَ الْعَوْدِ فِي الْكُفْرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ: الْحِجَابُ أَشَدُّ الْعَذَابِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ أَبْوَابِ التَّحَلِّي بِالْفَوَاضِلِ وَالْفَضَائِلِ، وَالْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ فَفِيهَا تَحْثِيثٌ وَتَحْرِيضٌ وَتَرْغِيبٌ وَتَحْرِيصٌ عَلَى تَحْصِيلِ بَقِيَّةِ الشَّمَائِلِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ أُمَّهَاتٌ لِغَيْرِ الْمَسْطُورَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: ( «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» ) كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>