للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

٥٨٥١ - «عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] قُلْتُ: يَقُولُونَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ذَلِكَ. وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ لِي. فَقَالَ لِي جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا بِمَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فَنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: ١ - ٥] قَالَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

٥٨٥١ - (عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا النَّصْرِ الْيَمَانِيَّ، مَوْلَى لِطَيِّئٍ، أَصْلُهُ بَصْرِيٌّ صَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَتَادَةَ وَغَيْرَهُمَا، رَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. (قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ. وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، (عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] : فِيهِ اشْتِبَاهُ الْحَالِ عَلَى الرَّاوِي، فَإِنَّ نُزُولَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] كَانَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، كَمَا عُلِمَ مُفَصَّلًا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَأَوَّلِيَّتُهُ إِضَافِيَّةٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوْ أَوَّلِيَّتُهُ مَخْصُوصَةٌ بِالْإِنْذَارِ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْوَحْيِ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنَّ مَا قَبْلَهُ كَانَ نِسْبَتَهُ النُّبُوَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قُلْتُ: يَقُولُونَ) أَيِ: الْجُمْهُورُ أَوْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] أَيْ: هُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ذَلِكَ) . أَيْ: مِثْلَ سُؤَالِكَ (وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ لِي) . أَيْ: فِي جَوَابِهِ لِلسُّؤَالِ مِمَّا يَعُودُ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ (قَالَ لِي جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا بِمَا) أَيْ: بِمِثْلِ (مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: بِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِتَقْدِيرِهِ (قَالَ: (جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَيَّامَ الْفَتْرَةِ كَانَتْ شَهْرًا (فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مُجَاوَرَتِي وَاعْتِكَافِي (هَبَطْتُ) أَيْ: نَزَلْتُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ ثَانِي الْحَالِ، لِأَنَّ نُزُولَ اقْرَأْ كَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، كَمَا سَبَقَ مِنَ الْمَقَالِ (فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا) : وَقَدْ سَبَقَ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ) الْحَدِيثَ. فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْأَوَّلُ الْإِضَافِيُّ (فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، قَالَتْ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا) : لَعَلَّ مَحَلَّ الصَّبِّ الْوَجْهُ لِدَفْعِ الْغَشَيَانِ، فَلَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْبُرُودَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْخَفَقَانِ، فَنَزَلَتْ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: ١ - ٥] قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَخْ إِخْبَارٌ عَمَّا سَمِعَ وَاعْتَقَدَ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] اهـ.

فَالْجَمْعُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ١] كَمَا صُرِّحَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَمَّا: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] فَكَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: ١] وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ الْفَاتِحَةُ فَبَاطِلٌ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَوَّلُ سُورَةٍ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، أَوْ أَوَّلُ سُورَةٍ بَعْدَ: اقْرَأْ، وَالْمُدَّثِّرِ، فَيَكُونُ أَوْلَوِيَّتُهَا أَيْضًا إِضَافِيَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ) أَيْ: نُزُولُ الْمُدَّثِّرِ (قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ) أَيْ: مُطْلَقُ الصَّلَاةِ الْمُتَوَقِّفُ صِحَّتُهَا أَوْ كَمَالُهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

<<  <  ج: ص:  >  >>