وَأَصْلِ اسْتِحْقَاقِهِمَا، (قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا) أَيْ: كَأَنَّهَا فَوْقَ رُءُوسِنَا (وَنَحْنُ) أَيْ: أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي الْغَارِ) ، اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: ٤٠] أَيْ غَارُ ثَوْرٍ لِلِاخْتِفَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى قَصْدِ الْهِجْرَةِ إِلَى الدَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغَارُ نَقْبٌ فِي أَعْلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ بِمِنَى مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ أَيْ: سَاعَةٍ نُجُومِيَّةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ. قِيلَ: طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْغَارِ فِي طَلَبِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ، فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِنْ تُصَبِ الْيَوْمَ ذَهَبَ دِينُ اللَّهِ. وَقَالَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الِاضْطِرَابِ خَوْفًا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَابِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ عَنْهُ، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمِهِ) أَيْ: مَوْضِعِهَا (أَبْصَرَنَا) ، أَيْ لِتَقَابُلِنَا (قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: ٤٠] وَنِسْبَةُ الْإِخْرَاجِ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (اللَّهُمَّ اعْمِ أَبْصَارَهُمْ) فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَ الْغَارِ وَلَا يَفْطُنُونَ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْهُ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقِصَّةَ بِانْضِمَامِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ قَضِيَّةُ الْحَمَامَةِ وَالْعَنْكَبُوتِ حَيْثُ أَظْهَرَهَا اللَّهُ فِي عُيُونِهِمْ عَلَى بَابِ الْغَارِ تَصِيرُ مُعْجِزَةً، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا جَاعِلُهُمَا ثَلَاثَةً بِضَمِّ نَفْسِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمَا فِي الْمَعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: ٤٠] ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: ٤٦] ؟ قُلْتُ: بَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَعَكُمَا) نَاصِرُكُمَا وَحَافِظُكُمَا مِنْ مَضَرَّةِ فِرْعَوْنَ وَمَعْنَى قَوْلِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاعِلُهُمَا ثَلَاثَةً، فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشْتَرِكٌ فِيمَا لَهُ، وَعَلَيْهِ مِنَ النُّصْرَةِ وَالْخِذْلَانِ.
فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ثَالِثُهُمَا اللَّهُ؟ قُلْتُ: يُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمَا مُخْتَصَّانِ بِأَنَّ اللَّهَ ثَالِثُهُمَا، وَلَيْسَ بِثَالِثِ غَيْرِهِمَا، وَفِي عَكْسِهِ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَالِثُهُمَا لَا غَيْرُهُ، وَكَمْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ؟ وَقَالَ أَكْمَلُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: اسْتُشْكِلَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ثَالِثُهُمَا إِطْلَاقُ الثَّالِثِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ زَيْغٌ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: ٧٣] إِطْلَاقُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَكَفَرَ الْقَائِلُونَ بِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِضَافَةُ الثَّالِثِ إِلَى عَدَدٍ أَنْقَصَ مِنْهُ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهُوَ مَصِيرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الْآيَةِ إِضَافَتُهُ إِلَى عَدَدٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. قُلْتُ: وَكَذَا زَالَ الْإِشْكَالُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: ٧] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ثَالِثُهُمْ وَخَامِسُهُمْ، ثُمَّ رَفَعَ وَهْمُ الْمَعِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِالْحُجَّةِ السِّيحَانِيَّةِ وَالْبَيِّنَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ، حَيْثُ عَمَّمَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: ٧] الْآيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute