وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ رَغْوَتُهُ وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَحُكِيَ كَسْرُهَا الزَّبَدُ يَعْلُو الشَّيْءَ عِنْدَ غَلَيَانِهِ، (ثُمَّ سَقَاهَا) ، أَيْ: أُمَّ مَعْبَدٍ (حَتَّى رَوِيَتْ) ، وَلَعَلَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا كَرَامَةٌ لَهَا، وَلِكَوْنِهَا صَاحِبَةَ الشَّاةِ وَتَرْغِيبًا إِلَى إِسْلَامِهَا (وَسَقَى أَصْحَابَهُ) ، أَيْ: بَعْدَهَا (حَتَّى رَوُوا) ، بِضَمِّ الْوَاوِ (ثُمَّ شَرِبَ آخِرَهُمْ) ، أَيْ فِي آخِرِهِمْ لِقَوْلِهِ: (سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا) (ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا بَعْدَ بَدْءٍ) ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: بَعْدَ ابْتِدَاءٍ بِلَا مُكْثٍ (حَتَّى مَلَأَ الْإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ) ، أَيْ: تَرَكَهُ (عِنْدَهَا) ، أَيْ مُعْجِزَةً تُرِيهَا زَوْجَهَا (وَبَايَعَهَا) ، أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى الْإِسْلَامِ وَارْتَحَلُوا عَنْهَا. رَوَاهُ) ، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ (وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) . أَيْ طَوِيلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا ارْتَحَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا، وَرَأَى فِي الْبَيْتِ لَبَنًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ، وَذَكَرَتْ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَعْتِهِ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ، فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ. بِمَكَّةَ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالِيًا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، وَلَا يَدْرُونَ مَنْ صَاحِبُهُ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبَّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْهُدَى وَاهْتَدَيْتُ بِهِ ... فَقَدْ فَازَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ بِهِ ... مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَارَى وَسُؤْدُدِ
لِيُهِنْ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهِمُ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
سَأَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَاثِهَا ... فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدُ
فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا لِحَالِبِ ... تُرَدِّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ
قَالَ مُحْيِ السُّنَّةِ: الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعُوا بِمَكَّةَ صَوْتُ بَعْضِ مُسْلِمِي الْجِنِّ أَقْبَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَالنَّاسُ يُتْبِعُونَهُ وَيُسْمِعُونَ الصَّوْتَ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى صَرَّخَ بِأَعْلَى مَكَّةَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَلَمَّا بَلَغَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ذَلِكَ جَعَلَ يُجَاوِبُ الْهَاتِفَ وَهُوَ يَقُولُ:
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ غَابَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمُ ... وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلَّتْ عُقُولُهُمُ ... وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدِّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ رَبُّهُمُ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُدُ
وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا ... عَمَّا يُتَّهَمُ وَهَادِيَةُ كُلِّ مُهْتَدِ
لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْلِ يَثْرِبَ ... رِكَابُ هُدًى حَلَّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ
نَبِيٍّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيُهِنْ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدِّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ
لِيُهِنْ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهَا ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ.