للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَأَنْ مُفَسِّرَةٌ (فَتَنَاوَلْتُهُ) ، أَيْ: أَخَذْتُهُ مِنْهُ وَنَاوَلْتُهُ إِلَيْهِ فَاسْتَعْمَلَهُ (فَاشْتَدَّ) ، أَيِ: السِّوَاكُ (عَلَيْهِ) ، أَيْ: لِأَنَّهُ شَدِيدٌ (وَقُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ: (أُلَيِّنُهُ لَكَ) ؟ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ (فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ) ، أَيْ: لَيَّنْتُ السِّوَاكَ بِرِيقِي، وَأَعْطَيْتُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأَمَرَّهُ عَلَى أَسْنَانِهِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَاضٍ مِنَ الْإِمْرَارِ، وَالْمَعْنَى فَاجْتَمَعَ الرِّيقَانِ فِي حَلْقِي، وَكَذَا فِي حَلْقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رِضَاهُ عَنْهَا حَتَّى عِنْدَ انْقِطَاعِ حَيَاتِهِ (وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ) ، أَيْ: ظَرْفٌ (فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ) ، وَإِيرَادُهَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ إِشْعَارٌ بِنِهَايَةِ حَرَارَتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى إِظْهَارِ عَجْزِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ. قِيلَ: وَسَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ يَفِيقُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي فِعْلُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَرِيضٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فُعِلَ بِهِ ; لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَخْفِيفِ الْكَرْبِ كَالتَّجْرِيعِ، بَلْ يَجِبُ التَّجْرِيعُ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمَرِيضِ إِلَيْهِ.

(وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، أَيِ: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ جَمْعُ سَكْرَةٍ أَيْ: شَدَائِدَ وَمَشَقَّاتٍ عَظِيمَاتٍ مِنْ حَرَارَاتٍ وَمَرَرَاتٍ طَبِيعِيَّاتٍ، حَتَّى لِلْأَنْبِيَاءِ، وَأَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ، فَاسْتَعِدُّوا لِتِلْكَ الْحَالَاتِ، وَاطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ تَهْوِينَهُ لِلْأَمْوَاتِ. وَفِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْمَوْتِ أَيْ: مَشْعُولٌ أَوْ مُتَلَبِّسٌ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) أَوْ قَالَ: (عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) . وَالْمُرَادُ بِمُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ شَدَائِدُهُ وَمَكْرُوهَاتُهُ، وَمَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنَ التَّغْطِيَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلسُّكْرِ، فَهُوَ بِمَعْنَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَالشَّكُّ إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ فِي تِلْكَ السَّكَرَاتِ زِيَادَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ. (ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ) ، أَيْ: رَفَعَهَا بِطَرِيقِ الدُّعَاءِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِيمَاءِ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ (فَجَعَلَ يَقُولُ) ، أَيْ: مُكَرِّرًا (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) . مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيِ اجْعَلْنِي فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَهُمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَالصَّدِيقِ وَالْخَلِيطِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: ٦٩] وَالرَّفِيقُ الْمُرَافِقُ فِي الطَّرِيقِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ اجْعَلْنِي فِي مَكَانِ رَفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَرَادَ بِالْمَكَانِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الْمَخْصُوصَ بِهِ، فَالْمَعْنَى اجْعَلْنِي سَاكِنًا فِيهِ قَائِمًا بِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى الْجَنَّةُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ غُلُوٍّ وَقِيلَ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مِنَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ، وَاخْتَارَ لَفْظَةَ (فِي) لِلدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ الْقُرْبِ الْمُشْعِرِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي حَضْرَةِ الرَّبِّ وَالْفَنَاءِ فِي مَقَامِ بَقَاءِ الْحُبِّ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْمُفِيدِ لِتَأْكِيدِ التَّأْبِيدِ، وَقَدْ غَفَلَ الْأَزْهَرِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْأَظْهَرِ، وَالْمَعْنَى الْأَنْوَرِ، وَغَلَطَ قَائِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَأَمَّلْهُ وَتَدَبَّرْ. ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيُّ قَالَ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، تَعَالَى. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: غَلَطَ قَائِلُ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ لَمْ يُوجِبْ إِطْلَاقَ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يُوجِبْ أَنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سَتِّيرٌ إِطْلَاقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِيضَاحَ مَعْنًى لَمْ يَكُنْ يَقَعُ فِي الْأَفْهَامِ إِلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. قَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَمَا الْمَانِعُ؟ وَلَيْسَ هَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ. وَقَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ: إِنَّهُ اخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، تَعَالَى، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ لَقِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» . وَحَدِيثُ جَعْفَرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ» . الْحَدِيثَ. وَلِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْبُغْيَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: ٢٧ - ٢٨] وَفِي إِدْخَالِ فِي عَلَى الرِّيقِ إِيذَانٌ بِغَايَةِ الْقُرْبِ، وَشِدَّةِ تَمَكُّنِهِ فِيهِ، وَحُلُولِ رِضْوَانِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: ٢٨] قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَائِشَةَ الْآتِيَةُ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْمَعْنَى كَانَ هَذَا حَالَهُ وَمَقَالَهُ (حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ) . أَيْ: عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ، أَوْ عَنِ الطَّرِيقَيْنِ إِيمَاءً إِلَى الْإِغْمَاضِ عَنِ الْكَوْنَيْنِ، وَالْمَيْلِ إِلَى الْمَكُونِ الَّذِي لِقَاؤُهُ قُرَّةُ الْعَيْنَيْنِ، وَلِذَا كَانَ سَيِّدَ الثَّقَلَيْنِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>