- وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنَ الرُّؤْيَا الَّتِي ذَكَرَهَا مَا عَرَفَهُ مِنْ تَأْوِيلِ رَفْعِ الْمِيزَانِ، فَإِنَّ فِيهِ احْتِمَالًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْأَمْرِ فِي زَمَانِ الْقَائِمِ بِهِ بَعْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَاذِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّمَكُّنِ بِالتَّأْيِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَزْنِ مُوَازَنَةَ أَيَّامِهِمْ لِمَا كَانَ نَظَرَ فِيهَا مِنْ رَوْنَقِ الْإِسْلَامِ وَبَهْجَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُوَازَنَةَ إِنَّمَا تُرَاعَى فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِبَةِ مَعَ مُنَاسَبَةٍ مَا، فَيَظْهَرُ الرُّجْحَانُ، فَإِذَا تَبَاعَدَتْ كُلَّ التَّبَاعُدِ لَمْ يُوجَدْ لِلْمُوَازَنَةِ مَعْنًى، فَلِهَذَا رُفِعَ الْمِيزَانُ.
(فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ) ، بِالْإِضَافَةِ وَرَفْعِ خِلَافَةٍ عَلَى الْخَبَرِ أَيِ الَّذِي رَأَيْتَهُ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ هَذِهِ خِلَافَةُ (ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ) . وَقِيلَ أَيْ: انْقَضَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، هَذِهِ الرُّؤْيَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ بِالْحَقِّ تَنْقَضِي وَتَنْتَهِي حَقِيقَتُهَا بِانْقِضَاءِ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ إِضَافَةُ الْخِلَافَةِ إِلَى النُّبُوَّةِ عَلَى أَنْ لَا ثُبُوتَ فِيهَا مِنْ طَلَبِ الْمُلْكِ وَالْمُنَازَعَةِ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَكَانَتْ خِلَافَةُ الشَّيْخَيْنِ عَلَى هَذَا، وَكَوْنُ الْمَرْجُوحِيَّةِ انْتَهَتْ إِلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلَّ عَلَى حُصُولِ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَشُوبَةٌ بِالْمُلْكِ، فَأَمَّا بَعْدَهُمَا فَكَانَتْ مُلْكًا عَضُوضًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدْوَةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَالَ: (رَأَيْتُ قَبْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهِيَ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهَذِهِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، وَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَرَجَحَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ بِهِمْ فَرَجَحَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَتْ) » . وَلَعَلَّ فِي رَاجِحِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِيمَاءً إِلَى اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَكَأَنَّهُ قَعَدَ بِهِمْ وَنَاءَ بِحِمْلِهِمْ، وَفِي رَفْعِ الْمِيزَانِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِي وُزِنُوا، فَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ فَوَزَنَ، ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ فَوَزَنَ، ثُمَّ وُزِنَ عُثْمَانُ فَنَقَصَ صَاحِبُنَا وَهُوَ صَالِحٌ» ) اهـ. بَلْ نَحْمِلُهَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ السَّابِقُ: فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَوَزَنَ عَلَى مُوَافَقَةِ رَأْيِهِمْ، وَأَنَّ رَأْيَهُ وَازَنَ آرَاءَهُمْ فَجَاءَ مَوْزُونًا مُعْتَدِلًا مَعَهَا لَمْ يُخَالِفُوهُ فِي رَأْيٍ رَآهُ. وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ آتِي أَهْلَ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ حَتَّى أُحْشَرَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ» ) وَمِمَّا يُنَاسِبُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ الرَّشِيدُ: كَيْفَ كَانَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ؟ قَالَ: كَقُرْبِ قَبْرَيْهِمَا مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. قَالَ: شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ. أَخْرَجَهُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَافِظُ السَّلَفِيُّ، وَنَحْوُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْمُوَافَقَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَمِمَّا يُنَاسِبُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْقَلَعِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَفَ مِنْ يَهُودِيٍّ شَيْئًا إِلَى الْحَوْلِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ وَلَمْ أَجِدْكَ فَإِلَى مَنْ أَذْهَبُ؟ قَالَ: (إِلَى أَبِي بَكْرٍ) قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْهُ. قَالَ: (إِلَى عُمَرَ) قَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْهُ؟ قَالَ: (إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَمُوتَ إِذَا مَاتَ عُمَرُ فَمُتْ) » . وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ. مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: ( «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ) وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute