- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمَحَبَّةِ إِذَا كَمُلَتْ وَاشْتَدَّتِ ارْتَفَعَ التَّكَلُّفُ كَمَا قِيلَ: إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ بَطَلَتِ الْكُلْفَةُ. قُلْتُ: فَانْقَلَبَ الْحَدِيثُ دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهِمَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ تَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ ذُكِرَ فِي بَابِ مَنَاقِبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ جَزَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِحْيَاءِ التَّوْقِيرُ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ الِاسْتِحْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَاشَرَةِ هُوَ الْمُشَاكَلَةُ وَالْمُقَابَلَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَلَبَةِ الصِّفَةِ وَالْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُرَاعِي صَاحِبَهُ بِكَثْرَةِ التَّوَاضُعِ يَقْتَضِي لَهُ زِيَادَةَ التَّوَاضُعِ مَعَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الِانْبِسَاطِ يُوجِبُ الِانْبِسَاطَ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرَ الْأَدَبِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَكَلُّفِ الْأَدَبِ مَعَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ سَائِرُ الْأَحْوَالِ مِنَ السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ وَالضَّحِكِ وَالْقِيَامِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: سُئِلْتُ عَنِ الْمَوْطِنِ الَّذِي اسْتَحَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ فَأَجَبْتُ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ يُعْتَمَدُ، وَلَكِنْ أَفَادَ شَيْخُنَا الْبَدْرُ النَّسَّابَةُ فِي بَعْضِ مَجَامِيعِهِ عَنِ الْجَمَّالِ الْكَازَرُونِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْبَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَقَدَّمَ عُثْمَانُ لِذَلِكَ كَانَ صَدْرُهُ مَكْشُوفًا، فَتَأَخَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ حَيَاءً، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَغْطِيَةِ صَدْرِهِ فَعَادُوا إِلَى مَكَانِهِمْ، فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَبِ تَأَخُّرِهِمْ فَقَالُوا: حَيَاءً مِنْ عُثْمَانَ اهـ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاءَ يُوجِبُ الْحَيَاءَ، وَأَنَّ حَيَاءَ الْمَلَائِكَةِ صَارَ سَبَبًا لِحَيَاءِ عُثْمَانَ، وَكَأَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِيهِ حَتَّى صَارَ سَبَبًا لِاسْتِحْيَاءِ غَيْرِهِ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: وَذَكَرَ عُثْمَانَ وَشِدَّةَ حَيَائِهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَيَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، ثُمَّ يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَاحِبُ " الصَّفْوَةِ ".
(وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) : قَالَ مَيْرَكُ: ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُمَا حَدِيثَانِ، فَالْمُتَقَدِّمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ حَدَّثَاهُ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ: (اجْمَعِي عَلَيَّ ثِيَابَكِ) يَعْنِي الْمِرْطَ. قَالَ: فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ: (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ) » : فَعِيلٌ بِمَعْنَى كَثِيرِ الْحَيَاءِ (وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ) . أَيْ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَخَافُ أَنْ يَرْجِعَ حَيَاءً مِنِّي عِنْدَمَا يَرَانِي عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَلَا يَعْرِضُ عَلَيَّ حَاجَتَهُ لِغَلَبَةِ أَدَبِهِ وَكَثْرَةِ حَيَائِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ يَسْتَأْذِنُ فَتَجَلَّلَ ثَوْبَهُ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَتَحَدَّثُوا سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى هَيْئَتِكَ لَمْ تَتَحَرَّكْ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ تَجَلَّلْتَ ثَوْبَكَ. قَالَ: (أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) » . وَخَرَّجَهُ رَزِينٌ مُخْتَصَرًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «عُثْمَانُ رَجُلٌ ذُو حَيَاءٍ فَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَقِفَ لِلْحِسَابِ فَشَفَّعَنِي فِيهِ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنِّي سَأَلْتُ عُثْمَانَ حَاجَةً سِرًّا فَقَضَاهَا سِرًّا. فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُحَاسِبَ عُثْمَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُحَاسِبَهُ سِرًّا» . وَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ إِذْ وَرَدَ فِي سِيَاقٍ: أَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ " فِي الْحِلْيَةِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «أَشَدُّ أُمَّتِي حَيَاءً ابْنُ عَفَّانَ» ) وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «عُثْمَانُ حَيِيٌّ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «عُثْمَانُ أَحْيَى أُمَّتِي وَأَكْرَمُهَا» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ( «أَشَدُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» ) وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: ( «إِنَّ عُثْمَانَ حِينَ يَسِيرُ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute