للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِغٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ، فَإِنَّ الْخِلَافَةَ فِي الْأَهْلِ فِي حَيَاتِهِ لَا تَقْتَضِي الْخِلَافَةَ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْمُقَايَسَةُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا تَنْتَقِضُ عَلَيْهِمْ بِمَوْتِ هَارُونَ قَبْلَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قُرْبِ مَنْزِلَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤَاخَاةِ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ الرَّوَافِضُ وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ فِي أَنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ حَقًّا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي طَلَبِ حَقِّهِ، وَهَؤُلَاءِ أَسْخَفُ عَقْلًا وَأَفْسَدُ مَذْهَبًا مِنْ أَنْ يُذْكَرَ قَوْلُهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ مَنْ كَفَّرَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا وَالصَّدْرَ الْأَوَّلَ خُصُوصًا، فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَهَدَمَ الْإِسْلَامَ، وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ فِيهِ إِثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعَلِيٍّ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِخْلَافِهِ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ هَارُونَ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً بَعْدَ مُوسَى ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ وَفَاةِ مُوسَى بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ حِينَ ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ لِلْمُنَاجَاةِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ قَوْلَهُ: " مِنِّي ": خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ، وَمِنْ: اتِّصَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ الْخَبَرِ خَاصٌّ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: ١٣٧] أَيْ آمَنُوا إِيمَانًا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ يَعْنِي أَنْتَ مُتَّصِلٌ بِي وَنَازِلٌ مِنِّي مَنْزِلَةَ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ، وَوَجْهُ الْمُشَبَّهِ مِنْهُمْ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا شَبَّهَهُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: (" «إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ") أَنَّ اتِّصَالَهُ بِهِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ، فَبَقِيَ الِاتِّصَالُ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافَةِ لِأَنَّهَا تَلِي النُّبُوَّةَ فِي الْمَرْتَبَةِ ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَمَاتِهِ لِأَنَّ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَاتَ قَبْلَ مُوسَى، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ انْتَهَى.

وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْخِلَافَةَ الْجُزْئِيَّةَ فِي حَيَاتِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْخِلَافَةِ الْكُلِّيَّةِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُزِلَ عَنْ تِلْكَ الْخِلَافَةِ بِرُجُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: " «إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ حَكَمًا مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَدْعُو بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَنْزِلُ نَبِيًّا أَقُولُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَيَكُونَ مُتَابِعًا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، وَإِتْقَانِ طَرِيقَتِهِ، وَلَوْ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» " أَيْ مَعَ وَصْفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَمَعَ سَلْبِهِمَا لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَزِيَّةِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لَكَانَ عَلِيًّا، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَرَدَ فِي حَقِّ عُمَرَ صَرِيحًا ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فَرْضِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ تُصُوِّرَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِي أَنْبِيَاءَ، وَلَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا» " وَأَمَّا حَدِيثُ: " «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» " فَقَدْ صَرَّحَ الْحُفَّاظُ كَالزَّرْكَشِيِّ وَالْعَسْقَلَانِيِّ وَالدَّمِيرِيِّ وَالسُّيُوطِيِّ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ ذَكَرُوا زِيَادَةً وَلَوْ كَانَ لَكُنْتَهُ، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهَا إِلَّا ابْنَ الْأَزْهَرِ، وَكَانَ يَضَعُ. وَقَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: الْمَتْنُ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِوَاضِعِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَفِي الرِّيَاضِ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَلَمْ يَقُولَا: إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَعَنْهُ قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: " أَمَا تَرْضَى بِأَنْ تَكُونَ مِنِّي مَنْزِلَةَ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو حَاتِمٍ.

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي مُوسَى، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي أَخِي عَلِيًّا اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ.

وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: " «أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا لِي، وَلَكَ مِنَ الْمَغْنَمِ مَا لِي» " وَأَخْرَجَهُ الْخُلَعِيُّ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ - وَأَبُو بَكْرٍ الطَّبَرِيُّ فِي جُزْئِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: " «عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ، وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنِ الْبَرَاءِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ رَأْسِي مِنْ بَدَنِي» ".

<<  <  ج: ص:  >  >>