فَبَلَغُوا مِائَتَيْنِ، وَادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ رَدَّهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ الْمَسْحِ إِلَّا ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَ عَنْهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الْحِسَانِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَمُوَافَقَةُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا عَائِشَةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَحَالَتْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ عَلِيٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: «وَسَكَتُّ عَنْهُ أَعْنِي الْمَسْحَ: مَا لِي بِهَذَا عِلْمٌ» . وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْهَا: " لَأَنْ أَقْطَعَ رِجْلِي بِالْمُوسَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ " بَاطِلٌ ; نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحُفَّاظُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٥١٧ - (عَنْ شُرَيْحِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ هَانِئٍ) : بِالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ كَنَى أَبَاهُ فَقَالَ: " «أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» " مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ فِي عَدَدِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ بِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ذِكْرِ الْمُخَضْرَمِينَ مَعَ الصَّحَابَةِ (قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْمَسْحِ) أَيْ: عَنْ مُدَّتِهِ (عَلَى الْخُفَّيْنِ) أَوْ عَنْ جَوَازِهِ عَلَيْهِمَا، وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، وَعَلَى الثَّانِي مُسْتَلْزِمٌ لَهُ (فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مُدَّتَهُ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ (لِلْمُسَافِرِ) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ الْمَسْحِ، وَقِيلَ: مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الرَّاجِحُ دَلِيلًا، وَقِيلَ: مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ (وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ) وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ ; حَيْثُ لَمْ يَرَ لِلْمُقِيمِ مَسْحًا، وَلَمْ يُقَيِّدْ لِلْمُسَافِرِ بِمُدَّةٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ السَّفَرَ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ قَطْعٍ تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ جَوَازِ الْإِفْطَارِ وَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَمَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَلَى الْخُفِّ، فَعَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُخْصَةِ الْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جِنْسَ الْمُسَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُسَافِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ عُمُومِ الرُّخْصَةِ الْجِنْسُ، حَتَّى إِنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مُسَافِرٍ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ سَفَرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَثَبَتَ مُسَافِرٌ لَا يُمْكِنُهُ مَسْحَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مُسَافِرٍ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً بِيَقِينٍ، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِيَقِينِ مَا هُوَ سَفَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ إِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ لِمُسَافِرٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» ". فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي الْأَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ تُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَأُجِيبَ: بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِضَعْفِ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، فَبَقِيَ قَصْرُ الْأَقَلِّ بِلَا دَلِيلٍ، كَذَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute