للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

الثَّانِي، وَأَيَّدَهُ بِمُؤَيِّدَاتٍ نَقْلِيَّةٍ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ هَلْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْيَهُودِيَّةِ أَمْ لَا. وَعَلَى كُلٍّ فَمَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: يُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الْإِنْجِيلِ وَحْدَهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ (فَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ) . قُلْتُ: لَا يُؤَيِّدُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى عِيسَى إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةٍ هِيَ بُعْدُ بَقَاءِ مُؤْمِنٍ بِمُوسَى دُونَ عِيسَى مَعَ صِحَّةِ إِيمَانِهِ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ دَعْوَةُ عِيسَى إِلَى بِعْثَةِ نَبِيِّنَا فَآمَنَ بِهِ، وَهَذَا وَإِنِ اسْتُبْعِدَ وَجُودُهُ لَكِنْ فِي حَمْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا يَشْمَلُهُ فَائِدَةٌ هِيَ أَنَّ الْيَهُودَ مَنْ بَنَى إِسْرَائِيلَ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُ دَعْوَةُ عِيسَى يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ مُؤْمِنٌ بِنَبِيِّهِ مُوسَى وَلَمْ يُكَذِّبْ نَبِيًّا آخَرَ بَعْدَهُ، فَإِذَا أَدْرَكَ بَعْثَةَ نَبِيِّنَا وَآمَنَ بِهِ تَنَاوَلَهُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَالْأَجْرُ الْمَسْطُورُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَرَبٌ نَحْوَ الْيَمَنِ مُتَهَوِّدُونَ وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى لِاخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِجْمَاعًا دُونَ غَيْرِهِمْ، فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ ذِهْنًا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِالْعُمُومِ الْآيَةُ النَّازِلَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَشْبَاهِهِ، وَهِيَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: ٥٤] رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ، وَفِيمَنْ آمَنَ بِي. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ وَابْنِ سَلَامٍ، وَلَا تَنَافِي فِي أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَالثَّانِيَ كَانَ يَهُودِيًّا. فَإِنْ قُلْتَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِعِيسَى فَكَيْفَ اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَيْنِ؟ قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَحَاشَا مِثْلَ ابْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ مَعَ سَعَةِ عُلُومِهِمْ وَكَمَالِ عُقُولِهِمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِعِيسَى، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بِأَنْ يُؤْمِنَ الْيَهُودِيُّ بِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِ شَرْعِهَا بِالْإِنْجِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ، وَإِلَّا فَقَبْلَ نَسْخِهِ بِشَرِيعَتِنَا، وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَلِمَ رِسَالَتَهُ إِلَيْهِ قَبْلَ نَسْخِ شَرْعِهِ بِشَرِيعَتِنَا، وَإِنَّمَا قَيَّدُوا بِمَا قَبْلَ النَّسْخِ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ غَيْرِهِ النَّاسِخَةِ لَهُ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَقِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْيِيدِ إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ طَرُوُّ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَبَبًا لِثَوَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ السَّابِقِ ; كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ فِي الْكُفْرِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: ٢٨] وَكَذَا كِتَابُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى هِرَقْلَ: ( «أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ» ) . وَقَوْمُهُ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْلَامِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ سَبَبًا لِإِسْلَامِ أَتْبَاعِهِ. [ (وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ) ] أَيْ إِيمَانًا صَحِيحًا أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: " وَبِمُحَمَّدٍ " مَعَ أَنَّهُ أَخْصَرُ؛ لِلْإِشْعَارِ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنَ النَّبِيِّينَ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِهِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِيمَانَهُ السَّابِقَ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ حَقًّا [ (وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ) ] : وُصِفَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ لَا مُطْلَقَ الْعَبْدِ، إِذْ جَمِيعُ النَّاسِ عِبَادُ اللَّهِ [ (إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ) ] مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَنَحْوِهِمَا [ (وَحَقَّ مَوَالِيهِ) ] أَيْ أَسْيَادَهُ وَمُلَّاكَهُ وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِ، مِنْ خِدْمَتِهِمُ الْجَائِزَةِ جُهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، وَجَمَعَ الْمَوَالِي لِأَنَّ " أَلْ " فِي الْعَبْدِ لِلْجِنْسِ، فَلِكُلِّ عَبْدٍ مَوْلًى عِنْدَ التَّوْزِيعِ، أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ حُقُوقَ جَمِيعِهِمْ فَيُعْلَمُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأَوْلَى، أَوْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ مَوَالِيهِ بِالْمُنَاوَبَةِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فَيَقُومُ بِحَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ، [ (وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا) ] أَيْ: يُجَامِعُهَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ أَنَّهُ مَعَ هَذَا أَيْضًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ فِي تَرْبِيَتِهَا، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ وُقُوعَ الْوَطْءِ بِالْفِعْلِ، بَلْ بِالْقُوَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ إِسْقَاطُهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ: «إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>