كَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ عِنْدَمَا شَاهَدْتُكِ، فَإِذَا أَنْتِ مِثْلُ الصُّورَةِ الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي الْمَنَامِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ حَيْثُ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَحَمَلَهَا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: ٢٥] وَمِنْهُ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ كُنْتُ أَظَنُّ أَنَّ الْعَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةٍ مِنَ الزُّنْبُورِ، فَإِذَا هِيَ أَيْ فَإِذَا الزُّنْبُورُ مِثْلُ الْعَقْرَبِ، فَحَذَفَ الْأَدَاةَ مُبَالَغَةً فَحَصَلَ التَّشَابُهُ، وَإِلَيْهِ لَمْحُ الْآيَةِ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، وَمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ فِي إِذَا يُسَاعِدُ هَذَا الْوَجْهُ. اهـ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُزَوِّجَنِي بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَتَهَا كَانَتْ فِي الْخِرْقَةِ، وَالْخِرْقَةُ فِي رَاحَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِالْكَيْفِيَّتَيْنِ لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: نَزَلَ مَرَّتَيْنِ أَيْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِهَا فِي رَاحَتِهِ وَمَلَكٌ آخَرُ فِي سَرَقَةٍ (" فَقُلْتُ ") ، أَيْ: فِي جَوَابِ الْمَلَكِ (" إِنْ يَكُنْ هَذَا ") ، أَيْ: مَا رَأَيْتَهُ فِي الْمَنَامِ (" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ") . بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِمْضَاءِ أَيْ يُنْفِذُهُ لَدَيَّ، وَيُوصِلُهُ إِلَيَّ وَيُظْهِرُهُ عَلَيَّ وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمُتَحَقِّقُ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ الْمُدِلُّ بِصِحَّتِهِ تَقْرِيرًا لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ وَتَحَقُّقِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ السُّلْطَانِ لِمَنْ تَحْتَ قَهْرِهِ: إِنْ كُنْتَ سُلْطَانًا انْتَقَمَتْ مِنْكَ أَيِ السَّلْطَنَةُ مُقْتَضِيَةً لِلِانْتِقَامِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ تَخْلِيصِ أَحْلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَضْغَاثِ، فَمَعْنَاهَا إِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَلَهَا ثَلَاثُ مَعَانٍ. أَحُدُهَا: الْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِهَا وَظَاهِرُهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَتَفْسِيرٍ يُمْضِهِ اللَّهُ وَيُنْجِزُهُ، فَالشَّكُّ عَائِدٌ إِلَى أَنَّهَا رُؤْيَا عَلَى ظَاهِرِهَا، أَمْ تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَصَرْفٍ عَنْ ظَاهِرِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الدُّنْيَا يُمْضِهَا اللَّهُ، فَالشَّكُّ أَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْجَنَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ وَلَكِنْ أُخْبِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَأَتَى بِصُورَةِ الشَّكِّ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ يُسَمُّونَهُ تَجَاهُلُ الْعَارِفِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَزْجُ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي ضَعَّفْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ، وَكَانَ مِنْ تَوَارُدِ الْخَاطِرِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَعْرَسَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. أَوَّلُهَا: تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيلَ دَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَقْدَمِهِ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْهَا وَلَهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَكَانَتْ فَقِيهَةً عَالِمَةً فَصِيحَةً فَاضِلَةً كَثِيرَةَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَارِفَةً بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ لَيْلًا فَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةَ مَرْوَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute