(وَفِي رِوَايَةٍ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ) . وَالْمَعْنَى اهْتَزَّ اهْتِشَاشًا وَسُرُورًا بِتَقَلُّبِهِ مِنَ الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِلَى الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْوَاحَ السُّعَدَاءِ وَالشُّهَدَاءِ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ هُنَاكَ، وَقِيلَ: اهْتَزَّ اسْتِعْظَامًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَقِيلَ: اهْتَزَّ وَفَرِحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ بِقُدُومِ رُوحِهِ، فَأَقَامَ الْعَرْشُ مَقَامَ حَامِلِيهِ، وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ اهْتِزَازُهُ إِعْلَامًا لِلْمَلَائِكَةِ بِوُقُوعِ أَمْرٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاهْتِزَازُ الْعَرْشِ تَحَرُّكُهُ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِ سَعْدٍ، وَجَعَلَ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ تَمْيِيزًا وَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: ٧٤] وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يُنْكَرُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَرْشَ جِسْمٌ مِنَ الْأَجْسَامِ يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ اهْتِزَازُ أَهِلِ الْعَرْشِ وَهُمْ حَمَلَتُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَالْمُرَادُ بِالِاهْتِزَازِ الِاسْتِبْشَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ يَهْتَزُّ لِلْمَكَارِمِ، لَا يُرِيدُونَ اضْطِرَابَ جِسْمِهِ وَحَرَكَتِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ ارْتِيَاحَهُ إِلَيْهَا وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ وَفَاتِهِ، وَالْعَرَبُ تَنْسُبُ الشَّيْءَ الْمُعَظَّمَ إِلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُونَ: أَظْلَمَتْ بِمَوْتِ فُلَانٍ الْأَرْضُ، وَقَامَتْ لَهُ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ اهْتِزَازُ سَرِيرِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ النَّعْشُ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ تَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا أَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ الْأَوْسِيُّ، أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارُهُمْ أَوَّلُ دَارٍ أَسْلَمَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ وَخِيَارِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ، وَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَكْحَلِهِ، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ جَابِرٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute