وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ ; لِأَنَّ الطِّيبِيَّ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا فِي مَذْهَبِهِ، وَالشَّرْطِيَّةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ عَلَى الْفَرَائِضِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَخُشُوعَهُنَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ) : بِشَرْطِهِ وَسُنَنِهِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ (وَخُشُوعَهُنَّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْخُشُوعُ حُضُورُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ. قَالَ السَّيِّدُ: عَطَفَهُ عَلَى الرُّكُوعِ إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: ٤٣] الرُّكُوعُ: الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَتَمَّ خُضُوعَهُنَّ بَعْدَ خُضُوعٍ أَيْ: خُضُوعًا مُضَافًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: ٨٦] كَرَّرَهَا لِشَدَّةِ الْخَطْبِ النَّازِلِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ الْأَرْكَانُ. أَيْ: أَتَمَّ أَرْكَانَهَا، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ تَغْلِيبًا كَمَا سُمِّيَتِ الرَّكْعَةُ رَكْعَةً، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِنَا إِذْ صَلَاةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا رُكُوعَ فِيهَا، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ وَلِكَوْنِهِ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالْوَسِيلَةِ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْأَرْكَانِ، فَفِيهِ تَنْبِيهُ نَبِيِّهِ عَلَى إِتْمَامِ مَا سِوَاهُ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ، وَالْمُرَادُ بِخُشُوعِهِنَّ سُكُونُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَبَثِ، وَالْقَلْبِ عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَأَمِّلًا لِمَعَانِي قِرَاءَتِهِ وَأَذْكَارِهِ، وَلِلسَّبَبِ الَّذِي شُرِعَ كُلُّ رُكْنٍ لِأَجْلِهِ مِنَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا، وَمِنَ الرُّكُوعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَمِنَ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ ; بِجَعْلِ أَشْرَفِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَوْطِئِ الْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ (كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ) : أَيْ: وَعْدٌ، وَالْعَهْدُ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالًا فَحَالًا، سَمَّى مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَازَاةِ لِعِبَادِهِ عَهْدًا عَلَى جِهَةِ مُقَابَلَةِ عَهْدِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ وَعَدَ الْقَائِمِينَ بِحِفْظِ عَهْدِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ، وَوَعْدُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يُخْلِفَهُ، فَسُمِّيَ وَعْدُهُ عَهْدًا ; لِأَنَّهُ أَوْثَقُ مِنْ كُلِّ وَعْدٍ (أَنْ يَغْفِرَ لَهُ) : إِمَّا جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةُ الْمُبْتَدَأِ صِفَةُ عَهْدٍ، وَإِمَّا بَدَلٌ عَنْ عَهْدٍ، وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْأَمَانُ وَالْمِيثَاقُ، وَالْمُرَادُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ (وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ: أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ تَرَكَ الْإِحْسَانَ (فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) : فَضْلًا (وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) : عَدْلًا، وَقَدَّمَ مَشِيئَةَ الْغُفْرَانِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَوَكَّلَ أَمْرَ التَّارِكِ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَجْوِيزًا لِعَفْوِهِ، وَمِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَعْدِ وَالْمُسَامَحَةُ فِي الْوَعِيدِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِقَابُ الْعَاصِي، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِثَابَةُ الْمُطِيعِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِخَلْقِهِ شَيْءٌ، بَلْ لَهُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَإِيلَامُهُمْ، وَإِثَابَةُ الْفَاسِقِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى الْكَافِرَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: ٤٨] وَأَمَّا تَحْقِيقُ خُلْفِ الْوَعِيدِ، فَفِي رِسَالَةِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَاللَّفْظُ لَهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ، قَالَهُ مِيرَكُ. (وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ (نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute