للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل تلك الآيات عليها الصبغة الزاهية من البيان الرائع والجمال اللفظي في أبسط أسلوب وأوضحه وأقربه إلى الفهم والقلب.

لقد كان معروفا ولا زال عند علماء البلاغة وأهل البيان أن هناك أمورا معيّنة وأحوالا خاصة يجيد فيها الشاعر أو الكاتب دون سواها. وحالته النفسية تلعب دورا في إعطاء الملامح والمزايا لإنتاجه، لذا عرف بعض الشعراء بجودة المديح والغزل وآخرون بالهجاء والذم، وكانت الأسبقية لآخرين في الشجاعة ووصف الحروب، ولغيرهم في الحكم ودقة التعبير عن المعاني العقلية أو النفسية. وكان إذا ترك أحدهم ما طبع عليه، وحاول أمرا لم يعتد عليه تناقصت قيمة شعره وإنتاجه وربما جاء بما يستنكر أو يستكره.

لذا ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب. أما أن تلتزم الطبقة العليا في الفصاحة وذروة سنام البلاغة في كل صغيرة وكبيرة مهما اختلفت المواضيع وتباينت الأحوال وامتد الزمن فذلك ما لا نجده في إنتاج أحد من البشر، لأن البشر- كما يقول ابن عطية- يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بكل شيء علما، ولا يكون ذلك إلا للخالق جلّ جلاله وتعالى شأنه، الذي أحاط بالكلام كله فيعلم مكان اللفظة وما يناسبها في الترتيب، وما يصلح أن يكون رديفا لها، فلذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة (١).

والمتتبع لآيات القرآن الكريم من العارفين بأفانين البلاغة يجد فيه فنونها بأسرها، من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل، ومن ضروب التأكيد، وأنواع التشبيه والتمثيل، إلى ضرب الأمثال، وأصناف الاستعارة، وحسن المطالع والمقاطع والفواصل، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل،


(١) مقدمة «المحرر الوجيز» لابن عطية، ١/ ٣٨. ط المغرب.

<<  <   >  >>