وفي قصة يوسف عليه السلام استعمل التعبير القرآني كلمة فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ولم يستعمل افترسه الذئب، علما أن الشائع في الاستعمال إطلاق كلمة الافتراس على مثل هذا النوع، وذلك للطيفة دقيقة وهي أن الافتراس من فعل السبع معناه القتل فحسب، وأصل الفرس: دق العنق، والقوم إنما ادّعوا على الذئب أنه أكله أكلا، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلا ولا عظما. وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إيّاهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى فلم يصلح على هذا أن يعبّر عنه إلا بأكل.
وبالإضافة إلى اختيار الكلمة المناسبة لأداء المعنى المعيّن فإن النظم القرآني يهتم بالإيقاع والانسجام في اللفظ والنغم:
فيؤتى بالكلمة وتوضع في مكان معيّن من العبارة بحيث لو تغيّر وضعها تقديما أو تأخيرا أو حذفا لاختل ذاك التناسق اللفظي وذاك الوزن الخاص.
ففي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠)[النجم: ١٩ - ٢٠]. لو حذفت كلمة (الأخرى) لاختلّت الفاصلة ولتأثّر الإيقاع، ولو قيل أفرأيتم اللات والعزى ومناة الأخرى بحذف كلمة (الثالثة) لاختل الوزن أيضا.
وكذلك قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى، فلو قيل ألكم الذكر وله الأنثى تلك قسمة ضيزى، بحذف كلمة (إذن) لاختل الإيقاع المستقيم بكلمة (إذن). فكأن هذه الكلمات والحروف موزونة بميزان شديد الحساسية تميله أخف الحركات والاهتزازات.
ومن هنا يبدو لنا بجلاء سبب إطلاق العرب الأوائل في بداية نزول الوحي اسم الشعر على القرآن الكريم، لأنهم لم يعهدوا هذه الحساسية وهذا الوزن وهذا النغم إلا في الشعر. ولكنهم عند ما قاسوه على أوزان