لما يجد في نفسه من القوة وما يأمل من طول المدة فقال محتاطا وَأَصابَهُ الْكِبَرُ. ثم علم سبحانه وتعالى أنه إذا كان عقيما مع الكبر سلّاه عنها قرب المدة وعدم من يهتم بضياعه بعده فلا يشتدّ أسفه عليها، فقال عزّ وجلّ محتاطا أيضا: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ. ثم علم أنه إذا لم يصف الذرية بالضعف احتمل الإطلاق أن يكونوا أقوياء، فيترجى إخلافهم لها،
فيخفض ذلك من أسفه فقال محتاطا: ضُعَفاءُ. ثم لما فرغ من وصف الجنة أخذ في وصف الحادث المهلك لها بقوله عزّ وجلّ: فَأَصابَها إِعْصارٌ. وعلم تبارك اسمه أن الإعصار لا يعجل فساد هذه الجنة، ولا يحصل هلاكها به إلا بعد استمراره عليها في مدة طويلة، وهو يريد الإخبار بتعجيل هلاكها فقال: فِيهِ نارٌ. ثم اقتصر سبحانه وتعالى من الرياح على الإعصار لكونه عبارة عن تقابل الرياح المثيرة للعجاج الكثيف الذي يعمي دوامه عيون الماء، ويطم الآبار والأنهار، ويحرق بسمومه ورهجه الأشجار، وإذا اتفق مع ذلك أن تكون فيه نار أدارها على المكان الذي يكون فيه بحيث لا ينصرف عنه، لأنه لا يقصد وجهة مقابلة فينصرف ما يكون فيه إليها. ثم علم الله سبحانه وتعالى أن النار يحتمل أن تكون ضعيفة فتطفأ لضعفها عن مقاومة ما في الجنة من الأنهار، ورطوبة الأشجار، فاحتاط لذلك بقوله:
فَاحْتَرَقَتْ فنفى هذا الاحتمال، وأوجز تتميم المعنى المراد.
وهكذا نجد أن الآية الكريمة قد تضمنت من الدقائق واللطائف ما يبرز الغرض المقصود من سوق المثل وهو إبراز عظيم أسف صاحب الجنة وتحسره على ما فاته منها، في حالة كان بأمس الحاجة إلى نتاجها وخيراتها. وكذلك المرائي بصدقته الذي ينفقها رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فإنه سيفقد هذا الثواب في وقت هو بأمس الحاجة إلى ما يثقل ميزان حسناته.