للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ (١). ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها البهيج يمتدّ بهم الغرور، ويلجّون في اللهو كأنهم يعيشون أبدا، وكأنهم يقدرون على إخلاد الأرض وإخلاد أنفسهم فيها، غارقين في متعها متقلبين في نعائمها، مسحورين بزخرفها، فاستخدمت (حتى) الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه.

وتتابعت أوصاف الغرور الإنساني تترى، لكل وصف منها تعبير متمهّل متبطّئ، فأما الأرض فشخصت مرتين، وقامت بحركتين، إذ أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس في جلوتها، وتطلبت الزينة تطلبا وسعت إليها سعيا فلم تزين ولكنها ازينت. وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوّا واختيالا وصعّروا خدودهم عجبا وكبرا وأيقنوا- وإن كان يقينهم ظنا وخيالا- أنهم في الأرض على كل شيء قادرون، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا. وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف. ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله فيطوي تلك الأخيلة الكواذب في وقت كلمح البصر بل هو أقرب، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) [يس: ٨٢].

وانظر ما من زخرف وما من زينة، ثم انظر فالناس المغرورون أعجز من أن يتصوروا ولو بالخيال ربوعهم ومغانيهم في تلك الأرض التي أصبح نباتها حصيدا هشيما تذروه الرياح حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) (٢).


(١) في الاقتران بين الناس والأنعام في الأكل دليل على إقبالهم على هذا الخليط من غير تروّ وشعور وإدراك للعواقب، وإنما الدافع لهم هو الشهوة الحيوانية. وهو شأن أهل الدنيا.
(٢) «مباحث في علوم القرآن» لصبحي الصالح، ص ٣٢٤.

<<  <   >  >>