للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن القرآن جاء في ثوب غير تلك الأثواب وفي صورة غير تلك الصور، جاء نسيج وحده، وصورة ذاته، فلا هو شعر ولا هو نثر ولا هو سجع، وإنما هو قرآن، فالآية في النظم القرآني وهو ليست بيت شعر وجملة نثر ومقطع سجع، بل هي قطعة من القرآن لها بداية ونهاية متضمّنة في سورة، ولكل آية مقطع تنتهي به هو الفاصلة، وليست هذه الفاصلة قافية شعر ولا حرف سجع وإنما هي شاهد قرآني لا يوجد إلا فيه، ولا يعتدل في كلام غيره.

إن النظم القرآني البديع بهر العرب بحسن مبادئ الآي والمقاطع وتماسك الكلمات واتساقها في التراكيب، وقد تأمّلوه آية آية وعشرا عشرا وسورة سورة فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها أو يرى غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى، بل وجدوا اتساقا بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات، ونظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما لم يدع في نفس واحد منهم موضع طمع حتى خرست الألسن أن تدّعي وتتقوّل.

وأقروا في قرارة أنفسهم أن هذا ليس من قول البشر وإن أنكروا ذلك بألسنتهم. ومجيء النظم القرآني على هذا الشكل من الإتقان والإحكام إنما يعود- كما يقول ابن عطية- إلى أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما إذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطة أي لفظة تصلح أن تبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا. فلهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة.

ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصة فيبدّل فيها وينقّح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن

<<  <   >  >>