يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه، ولكن بماذا يعبّر إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه؟ لقد أبدع القرآن لذلك تعبيرا عجيبا رائعا حيث قال: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: ٣١]. (متكأ) كلمة تصور من الطعام ذلك النوع الذي إنما يقدّم تفكّها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتّكاء. ولعلها أدركت بغريزتها النسائية ما سيئول إليه أمرهن فاختارت هذا المتكأ مما يحتاج فيه إلى سكين وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً.
د- وأحيانا يكون الاختيار للكلمة في مكان دون أماكن ويستبدل به غيرها لسرّ لطيف بالرغم من كون الموضوع واحدا، لكن الكلمة المختارة تعطي مدلولا خاصا لا يوفّيه حقّه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة.
فمثلا: جاءت الملائكة بالبشرى لزكريا عليه السلام بيحيى، وأيضا جاءت بالبشرى للسيدة مريم العذراء بالمسيح عليه السلام. لكن وضع المبشّرين مختلف، وتلقّي الخبر منهما يكون له رد فعل يغاير ما في نفس الآخر، واستغراب كلّ منهما يكون لجانب أشد التصاقا بحاله ووضعه. قال زكريا عليه السلام عند ما جاءته البشرى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران: ٤٠]. وقالت مريم عليها السلام عند ما جاءتها البشرى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: ٤٧].
ورد في كلام زكريا عليه السلام لفظ الغلام وهو الموافق والمطابق لحاله لأنه رجل متزوج ومن شأن المتزوجين كما هي العادة أن يولد لهم، ولكن الغريب في الأمر والمعجزة أن يولد له في هذه السن المتأخرة من حياته وامرأته عاقر فكانت الكلمة التي تؤدي الغرض ووجه الاستغراب هي كلمة (غلام).