للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر، يقول تعالى:* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا

وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

(١٧٧) [البقرة: ١٧٧].

فالآية الكريمة جمعت أطراف البر ابتداء بالعقيدة إذ هي الأساس الذي يبنى عليه غيره واستطرادا إلى التشريعات التي تكون الهيكل والقوام وانتهاء بالأخلاق والفضائل وهي المزايا الكريمة الراقية. يقول ابن عاشور: (فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم، وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئة عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال، فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر الفرديات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض، والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة، ولذلك قال تعالى هنا: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة (١).

فهذه الآية الفذة قد جمعت بين البر في العقيدة والبر في التشريعات والبر في الأخلاق، وهي قوام التقوى والفلاح في الدارين: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦].


(١) تفسير (التحرير والتنوير) ٢/ ١٣٢.

<<  <   >  >>