وهكذا تحولت حركة التعليم إلى كتاتيب وحلقات علم ومجالس في المساجد وفي دور العلماء، وظهرت جذور المدارس الفكرية المتنوعة متمثلة بمدرسة أبي موسى الأشعري في القراءات في البصرة، ومدرسة عبد الله بن مسعود في الفقه في الكوفة، ومدرسة عبد الله بن عباس في التفسير بمكة، والمدرستين البصرية والكوفية في النحو.
والحق أن مسؤولية الدولة عن التعليم كانت محدودة النطاق، إذ تركت للناس حريتهم في التعليم مع أنها منحتهم التشجيع والمؤازرة. وكان الانسجام في الأهداف والتطلعات يوحد بين الحكومة والأمة، فلم تكن انطلاقة التعليم الواسعة تهدد الدولة، بل كانت تحقق لها القوة والاستقرار رغم عدم هيمنتها عليها.
ولا شك في أن حرية التعليم وبعده عن هيمنة الدولة ظلاَّ سمةً مميزةً له طوال القرون اللاحقة، إلى أن ظهرت المدارس والجامعات الأولى في الإسلام، تلك التي رعتها الدولة، غير أنها لم تكن في الحقيقة تحت إشراف الدولة إلا من حيث إمدادها بالنفقات ومساعدتها على البقاء، فقد استمرت حرية التعليم بعد ظهور تلك المؤسسات.
إن مبدأ "مجانية التعليم" وكذلك مبدأ "التعليم للجميع" هما من معطيات ذلك العصر. فقدسية التعليم وارتباطه بالعقيدة جعلت رواده يهدفون إلى خدمة المبدأ عن طريق التعليم بدلاً من التكسب به. وقد استمر هذا المبدأ قروناً طويلة، كان التعليم خلالها شعبياً بما تحمله هذه الكلمة من معنى، يناله الغني والفقير، بل إن حظ الفقراء فيه أعظم من حط الأغنياء، وتفرغهم له وبروزهم فيه كان أكبر، ولم يكن قاصراً على الطبقات الحاكمة والغنيمة، كما هو حال العصور الوسطى الأوربية.
ومنذ بدء حركة التعليم في الإسلام، اقترن العلم بالعمل، فلم يفصل بين العلم وحاجيات الحياة الواقعية طوال عدة قرون، باستثناء تيارات تمثل الترف الفكري والنزوع العقلي النظري، ومن أبرزها مدرسة المعتزلة التي لم يكتب لها الهيمنة على الحياة الفكرية، وإن علا صوتها- بقوة السلطان- زمناً يسيراً في العصر العباسي.