للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سمع بعض الصحابة ذلك قال: «ما كنت أشدَّ اجتهادا مني الآن». وهذا مما يدلُّ على جلالة فقه الصحابة ودقَّة أفهامهم وصحَّة علومهم؛ فإن النبيَّ أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب؛ وإن العبد ينال ما قُدِّر له بالسبب الذي أُقدِر عليه ومُكِّن منه وهُيِّئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أمِّ الكتاب، وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، وهذا كما إذا قُدِّر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلُّم وأسبابه» (١).

وقد قرَّر العلماء هذه المسألة ونصُّوا عليها في كتبهم المصنَّفة في الاعتقاد، وشروح السنَّة، والسلوك والآداب، وحكوا إجماع السلف وأئمَّة أهل السنة على ذلك، وأنه لم يخالف فيها إلا أهل البدع.

قال الخطَّابيُّ تعليقًا على حديث عليٍّ: «فهذا الحديث إذا تأمَّلته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر، وذلك أن السائلَ رسولَ الله والقائلَ له: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ لم يترك شيئًا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب التجوير والتعديل إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه أن القياس في هذا الباب متروكٌ، والمطالبةَ عليه ساقطةٌ، وأنه أمرٌ لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عُقِلت معانيها، وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل؛ ليكون أمارةً في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمَن تيسَّر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومَن تيسَّر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك، وهذه أماراتٌ من جهة العلم الظاهر وليست بموجِبات؛ فإن الله سبحانه طوى علم


(١) شفاء العليل (١/ ١١٩ - ١٢٠).

<<  <   >  >>