للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبهذا يتبيَّن أن العدول عن هذه الألفاظ المجملة إلى الألفاظ الشرعيَّة الواضحة الدلالة على الحقِّ، والموافقة للنصِّ، والسالمة من الشبه؛ هو الأعدل والأقوم، والموافق لطريقة السلف.

فإن قال قائلٌ: التفريق بين الأعمال الاختياريَّة؛ كالطاعات والمعاصي، والأعمال المقدَّرة؛ كالأمراض والحوادث، وأن العبد مُخَيَّرٌ في القسم الأوَّل مُسَيَّرٌ في القسم الثاني؛ يزول به اللبس.

فجوابه: أن القول بأن العبد مُخَيَّرٌ فيما يُسَمَّى بالأفعال الاختياريَّة؛ كالطاعات والمعاصي ليس على إطلاقه؛ فله مشيئةٌ واختيارٌ فيها، لكن مشيئته ليست مطلقةً، بل هي مقيَّدةٌ بمشيئة الله، وقد أخبر الله عن هذا في قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٨ - ٢٩]، فبيَّن سبحانه أن مشيئة العبد في الاستقامة وفعل الطاعات ليست نافذةً إلا بمشيئته.

وفي الحديث القدسيِّ الطويل من حديث أبي ذرٍّ فيما يرويه النَّبِي عن ربِّه شاهدٌ قويٌّ لفقر العبد لربِّه وأنه لا يمكن أن يتحقَّق له شيءٌ مما أراد إلا بمشيئة الله وإرادته. ومما جاء في هذا الحديث قوله -جل وعلا-: «يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَنْ هديته، فاستهدونِي أهدكم، يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا مَنْ أطعمته، فاستطعمونِي أطعمكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلا مَنْ كسوته، فاستكسونِي أكسكم … » الحديث (١).

فتبيَّن أن العبد لا مشيئة له ولا اختيار إلا بعد مشيئة الله، وهذا ظاهرٌ ملموسٌ من الواقع، فليس كلُّ مَنْ أراد عملًا صالحًا يوفق إليه، ولا مَنْ أراد عملًا سيِّئًا يُمكَّن منه. وعلى هذا؛ فالقول بأنه مُخَيَّرٌ في هذه الأعمال -على الإطلاق-


(١) أخرجه مسلم (٢٥٧٧).

<<  <   >  >>