للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وسعيد بن عبد العزيز صاحبي مكحول وهما أعرف الناس به وقد برَّآه من القدر. فإن ليثًا لم يلق مكحولًا ولم يصحبه وروايته عنه مرسلة، فقد «سئل أبو زرعة عن ليث بن أبي سليم هل سمع من مكحول؟ قال: لا هو مرسل» (١).

ثم ما حكاه ليث عن مكحول: (أنه يعجبه كلام غيلان) فهو مع انقطاع سنده -فإن روايته عن مكحول مرسلة والمرسل منقطع لا تقوم به حجة-؛ ففي متنه نكارة من جهة معارضته لما هو مشهور من إنكار مكحول على غيلان وهجره له، وهذا ثابت من أكثر من وجه بنقل أصحاب مكحول وتصريحهم بسماعهم ذمَّ مكحولٍ لغيلانَ ذمًّا شديدًا وهجره له.

وكذلك مقولة مكحول في غيلان (قل قليله) -إن ثبتت- فتفسيرها بأن معناها: «ما أقل في الناس مثله!» غريب يأباه اللفظ، والألفاظ قوالب المعاني؛ فإن مكحولًا لو أراد هذا المعنى لقال: (ما أقله في الناس) أو قال: (قَلَّ في الناس نظيره)، بل قوله: (قل قليله) دلالتها على الذم أظهر، وأن معناها (قلَّ بالبدعة قليل غيلان من العلم) أي: أن علمه قليل، ثم قلَّ بالبدعة قليله، فهذا الذي تقتضيه اللفظة من حيث المعنى. وكذا الحال يشهد لهذا من أنها -إن ثبتت عن مكحول- فإنه إنما أراد ذم غيلان لا مدحه وهي أوفق من جهة المعنى لقوله: «بئس الخليفة كان غيلان لمحمد على أمته من بعده» (٢)، أما أن تحمل على أنه قصد بها مدحًا، متضمنًا هذا الإطراء المبالغ فيه، وأنه أراد أنه (قَلَّ في الناس مثله)؛ فهذا من قلب المعاني والجمع بين الأضداد.

الرابع: أن مكحولًا إمام أهل الشام وكانت له منزلة وكلمة نافذه فيهم،


(١) المراسيل لابن أبي حاتم (ص: ١٨١).
(٢) أخرجه ابن بطة (٤/ ٢١٧).

<<  <   >  >>