للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وجرح آخرون ثم انتهت الفتنة بالمصالحة بين الشيوخ الطرفين، واستدعى الخليفة أبو جعفر (شيخ الحنابلة) إلى دار الخلافة للسلام عليه والتبرك بدعائه.

ولكن يفهم من سياق الحادثة أن البادئ هم أتباع الأشعرية لا الحنابلة، كما يستخلص منها أيضًا أن الأشعرية كانوا أقوى شوكة وأنهم استندوا إلى قوة الوزير في إثارة الناس على الحنابلة. وجاء هذا على لسان شيخ الحنابلة إلى الشيخ أبي إسحاق ( ... إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان ... ونظام الملك أي الوزير وشبعت، أبديت ما كان مختفيًا في نفسك) (١) .

ونضطر للتساؤل، أين مثل هذه الحوادث بحجمها ونتائجها مع ضراوة الأساليب التي اتخذها المأمون والخليفتان من بعده؟

وبغير استطراد في سرد ألوان الاضطهاد والتعذيب مما تحشده كتب التاريخ عن المحنة - حتى أصبح اللفظ مصطلحاً معبراً عن محنة خلق القرآن وحدها - سنكتفي بالواقعة المشهورة المذهلة التي تتلخص في اختبار أسرى المسلمين بقضية خلق القرآن ونفي رؤية الله عز وجل في الجنة، فإن أجابوا بالإيجاب، فك أسرهم، وإن لم يفعلوا أعيدوا إلى الأعداء مرة أخرى (٢) .

قال المسعودي يصف هذه المأساة: (وحضر هذا النداء رجل يكنى أبا رملة من قبل أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة. يمتحن الأسارى وقت المفاداة فمن قال منهم بخلق التلاوة ونفي الرؤية فودي به، وأحسن إليه، ومن أبى ترك بأرض الروم. فاختار جماعة من الأسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك. وأبى أن يسلم الانقياد إلى ذلك، فنالته محن ومهانة إلى أن تخلص (٣) .


(١) ابن كثير: البداية والنهاية ج ١٢ ص ١١٥.
(٢) ومع هذا يؤسفنا أن نجد باحثاً جادًا، كالدكتور محمد عمارة في كتاب (تيارات في الفكر الإسلامي) يغض الطرف عن هذه الحقيقة ويقصر وصف المحنة على ما حدث لبعض المعتزلة نتيجة خروجهم.
(٣) وقدر عدد الأسرى حينذاك بأربعة آلاف وثلاثمائة واثنين وستين من ذكر وأنثى وقيل أربعة آلاف وسبعة وأربعين. المسعودي: التنبيه والإشراف ط القاهرة ١٣٥٧ هـ ص ١٦١ - ١٦٢.

<<  <   >  >>