يضعها في غير موضعها (١) وله المثل الأعلى، فإنه سبحانه لا يضع شيئًا إلا موضعه، فلا يكون إلا عدلاً ولا يفعل إلا خيرا، وهو سبحانه له الخلق والأمر، فأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وبتعطيل المفاسد وتقليلها، إذا تعارض أمران رجح أحسنهما، وليس في الشريعة أمر بفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه، ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده وهو فيما يأمر به قد أراده إرادة دينية شرعية واجبة ورضيه، فلا يحب ويرضى شيئًا إلا ووجوده خير من عدمه، ولهذا أمر عباده أن يأخذوا بأحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فإن الأحسن هو في المأمور، وهو خير من المنهي عنه.
والقارئ لمؤلفات ابن تيمية، يلحظ أنه كثيرًا ما يعالج قضايا متشابكة في مؤلف واحد أو رسالة واحدة، ولكن وراءها ضابط يمسك بزمامها فإذا ما وجه الباحث عنايته إليها ظهر الحل واضحًا جليًا.
وقضية كهذه - أي: قضية الإيمان بالقضاء والقدر وصلتها بأفعال العباد - من أهم القضايا وأعمقها، وقد حارت بها العقول والأفهام، ولهذا نجد ابن تيمية يعالجها من مداخل عدة: مدخل الإيمان بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه سبحانه خالق العباد وأفعالهم، وإثبات صفات الله تعالى من الحكمة والعدل والرحمة كما يفضل أحيانًا عرض آرائه من خلال التمييز بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الدينية.
ويرى ابن تيمية أن سوء الفهم والاعتقاد بين القدرية والجبرية راجع إلى الخلط بين خلق الله تعالى وتقديره، وأمره وتشريعه، فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه، وما يضرهم، بمنزلة أمر الطبيب المريض بما ينفعه وحمايته مما يضره. فأخبر الله على ألسنة رسله بمصير السعداء والأشقياء، وأمر بما يوصل إلى السعادة، ونهى عما يوصل إلى الشقاوة. وأما خلقه وتقديره فيتعلق به وبجملة المخلوقات، فيفعل ما له فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه، وإن كان في ضمن ذلك مضرة للبعض. مثال ذلك: أنه ينزل الغيث رحمة وحكمة، وإن كان في ضمن ذلك
(١) ابن تيمية: رسالة فى معنى كون الرب عادلا وفي تنزيهه عن الظلم ص ١٣٠ - ١٣١ بكتاب (جامع الرسائل) المجموعة الأولى - تحقيق الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم مطبعة المدني ١٣٨٩ هـ - ١٩٦٩ م.