واستكمالاً للحديث عن الحضارة فإننا لا نستطيع دفع المخاطر عن تصور الحضارة المعاصرة التي نحيا في ظلها بالتقليد والمحاكاة (١) ، كما لا نستطيع في مجال المقارنة بينهما وبين الحضارة الإسلامية إغفال حالة التأخر التي تحياها المجتمعات - التي كانت في يوم ما معبرة عن الحضارة الإسلامية إبان القرون الخوالي.
ومهما يكن من أمر فقد كان اصطدام الحضارتين أمرًا حتميًا ويوجبه اختلاف العقائد والتصورات والقيم والنظم وهو أمر حتمي لسنن الله تعالى في قيام الأمم وسقوطها قال تعالى:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)[البقرة: ٢٥١ - الحج، الآية: ٤٠] . نجم عنه تفاعل مشكلات (كلامية) بالمصطلح المعروف، إذ إن الهزائم في الميادين العسكرية لم تمنع علماء الإسلام من التصدي للحضارة الغازية ونقدها من واقع الأصول الإسلامية في الكتاب والسنة فضلاً عن المنجزات التي حققها المسلمون عندما كانت حضارتهم هي السائدة والقائدة.
ولعل الترتيب المنطقي في موضوعنا يلزم تسلسل الأفكار بحيث نبدأ بتعريف سمات الحضارة المعاصرة وأثرها على الفكر الإسلامي تأييدًا أو معارضة مما نجم عنه ظهور قضايا لا زالت موضوع البحث والجدل.
ولعلنا نصل إلى هدفنا من خلال بيان نقد هذه الحضارة وخلاصته أن التقدم الصناعي والتجارة العالمية هما اللذان أديا - بخلاف المرتقب والمتوقع - إلى وقوع الحرب العالمية الأولى، كما أن الاختراعات التي وضعت في أيدي الجيوش جعلت الحرب ذات طابع مدمر فأصبح الغالب والمغلوب سيان، ثم إن الإنجازات التكنولوجية جعلت الدول في وضع يسمح لها بالقتال من مسافة بعيدة والقضاء على أعداد ضخمة من الناس كالأشعات والأسلحة السامة وغيرها.
ويستخلص - أشفتيسر - من هذا كله أن الإنجازات المادية ليست حضارة، ولا تصبح حضارة إلا بمقدار ما تستطيع عقلية الشعوب المتمدينة توجيهها وجهة
(١) يرى ابن خلدون بعد تحليله للنفس الإنسانية أن المغلوب يتشبه بالغالب في شعاره وبخلقه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وعوائده. المقدمة: الفصل الثالث والعشرون.