وهذه المزية ينفرد بها الصحابة دون من جاء بعدهم، لأنه ما إن انقضى عصرهم حتى ظهرت بواكير التحول التدريجي البطيء عن هذه الحياة أقل درجة منها، ثم ظهرت الفتن والقلاقل، شأنه سنن الحياة في النزول عن القمة بعد بلوغها الذروة.
ومن هنا أصبحت تقاس أطوارنا تاريخيًا بالنظر إلى اقترابها أو ابتعادها عن المجتمع الإسلامي في الخلافة الراشدة وما حققته الحضارة الإسلامية في هذا الطور العظيم، فإذا تكلمنا عن الشورى والبيعة والعدالة، وإذا تكلمنا عن المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس، وإذا تكلمنا عن الفتوحات ورايات الإسلام الخفاقة المنتشرة في الأرض حينذاك، فلن تجد مصدرا غنيًا كاملاً بكل ما تحقق في هذه الميادين إلا في وقت الخلافة الراشدة والقرون الأولى المفضلة.
ولهذا فإن التاريخ يسجل الصلة العكسية بين ظهور الحضارة الإسلامية واتساع نفوذها وأثر إشعاعها وفتوحاتها، وبين ظهور الفرق وانقسام صفوف المسلمين بين نحل ومذاهب تتطاحن وتتناحر.
وإذا عبرنا بلغة فلسفة التاريخ لفهم تاريخ المسلمين، عثرنا على الرباط الوثيق بين تنفيذ قواعد الشرع وفَهْم الإسلام من واقع مصدريه وبين النصر والظهور للمسلمين وبلوغ حضارتهم إلى الذروة، ففي العصور الأولى عندما كان الصحابة والتابعون يسيرون على طريق الشرع بفهم ووعي، انتصروا في الغزوات وقهروا الأعداء وحققوا مجتمعًا إنسانيًا مثاليًا لم تر البشرية مثله، ثم أصاب الوهن المجتمعات الإسلامية وظهر الضعف في أوصالها على أثر ضعف العقيدة في النفوس وظهور البدع. ولا تخطئ عين الباحث المنقب في كتب التاريخ ملاحظة ما حققه المسلمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيادته ثم الصحابة التابعون.
وإذا شئنا تفصيلا موجزًا، رأينا أن عصر بني أمية امتلأ بالفتوحات والانتصارات ولكن يعاب على أمرائهم تأخير الصلاة.
وكان أوائل خلفاء بني العباس أفضل ممن سبقهم من بني أمية في أداء الصلاة في أوقاتها وفي عصر المأمون (٢١٥ هـ) ترجمت الكتب اليونانية وكان ذلك على حساب العقيدة، فعندما تدخلت المفاهيم الفلسفية اليونانية، انحرفت العقيدة. وزادها انحرافًا غلو التشيع ثم التصوف بمذاهبه المتطرفة كالحلول ووحدة الوجود، واختلط