للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يذكر لنا الملطي المحاورة الدائرة بينهما فيقول:

(لما دخل "غيلان" إلى "عمر بن عبد العزيز" سأله عن أمر الناس فأخبره صلاحًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يا أمير المؤمنين أتكلم فتسمع؟ قال: تكلم، فقرأ (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان، الآية: ١ - ٣] .

ويبدو من إجابة غيلان أنه استند إلى آيات من سورة الإنسان - أو الدهر- فاقتطع آيات من السورة لكي يؤيد فكرته المسبقة عن نفي القدر.

لذلك سنجد في إجابة "عمر بن عبد العزيز" رحمه الله ما يضع القضية في وضعها الصحيح، فيذكر غيلان بالأصل والمبدأ، وهو أن الإنسان مخلوق خلقه الله تعالى، وهو خالقه وخالق أعماله، ولا ينفي ذلك جعل الإنسان مسؤولاً عما يفعله ومريدًا له ومسؤولاً عنه.

لهذا قال عمر: (ويحك من هاهنا تأخذ الأمر وتدع بدء خلق آدم عليه السلام؟ ثم تلا قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة، الآية: ٣٠ - ٣٣] .

فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لقد جئتُك ضالاً فهديتني، وأعمى فأبصرتني، وجاهلاً فعلمتني، والله لا أتكلم في شيء من هذا الأمر أبدًا.

فقال عمر: والله لئن بلغني أنك تكلمت في شيء منه لأجعلنك للناس أو للعالمين نكالاً، فلم يتكلم في شيء حتى مات عمر رحمه الله، فلما مات عمر استأنف الكلام بما وعد بالانتهاء عن الخوض فيه (١) .

ولدينا مصدر آخر يسجل مناقشة ثانية دارت بين "عمر بن عبد العزيز"


(١) الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص ١٦٨.

<<  <   >  >>