وغيلان "الدمشقي"، لها مدلول مشابه، مع الاختلاف في الحجج التي قدمها عمر رحمه الله، حيث تذكر أنه أفحم غيلان بآيات من سورة "يس" كقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ)[يس، الآية: ٨] وقوله عز وجل: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)[يس، الآية: ٩] وغيرها - وكانت إجابة "غيلان" لا تخرج أيضًا عن ترديده القول في كل آية يسمعها "كأني لم أقرأ هذه الآية قط".
ولكن "غيلان" نقض العهد في زمان "هشام" فاستدعاه مذكرًا إياه بعهده لعمر بن عبد العزيز، فلما طلب "غيلان" العفو عنه هذه المرة أيضًا رفض هشام وأمره بقراءة أوائل سورة "الفاتحة"، فقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
فسأله هشام: علام استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه إلا به أو على أمر في يدك أو بيدك؟ ثم أمر به ليضربوا عنقه (١) .
ويتضح من هذه النصوص المنهج الذي اتبعه الأوائل في فهم الصلة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية، فنجد "عمر بن عبد العزيز" يذكر غيلان بمبدأ خلق آدم عليه السلام وتعليمه الأسماء كلها وإسجاد الملائكة له فالذي خلقه - سبحانه - من قبل ولم يك شيئًا وعلمه ما لم يكن يعلم؛ وهو الذي يمده أيضًا بالقدرة على الفعل، فيظهر الفقر الذاتي لآدم عليه السلام وبنيه؛ وأنهم لا يستقلون عن خالقهم فهو خالقهم وخالق أفعالهم، مع نسبة الأفعال للإنسان نفسه طبقًا لقواعد الشرع والعقل واللغة؛ ومن ثم مسؤوليته عنها وجزاؤه في مقابلها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
ونلحظ أيضًا أن طريقة عمر بن عبد العزيز رحمه الله خالية من استخدام أية مصطلحات خارجة عن الآيات القرآنية، كل ما هناك أنه لفت نظر غيلان إلى الآيات المثبتة للقدرة المطلقة لله تعالى - فإنه سبحانه على كل شيء قدير - وهو توجيه ضمني إلى غيلان - وغيره ممن تأثروا به - إلى خطأ موقف اتخاذ الرأي المسبق ثم البحث في القرآن الكريم على ما يؤيده - فهذه طريقة الذين يضربون كتاب الله
(١) أحمد بن حنبل: كتاب السنة - الطبعة السلفية مكة المكرمة ١٣٤٩هـ ج ٢ ص ١٢٧.