للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعالى بعضه ببعض، ويختارون الآيات التي توافق أهواءهم دون غيرها التي تصادمها. كما لم يرد على لسان "عمر بن عبد العزيز" لفظا الجبر والاختيار، ولكنه باختياره للآيات الأولى من "سورة البقرة" عن خلق آدم عليه السلام أرشدنا إلى فهمه للمسألة، وهو أن الآيات القرآنية متوافقة متعاضدة، الإنسان مسؤول حر في اختيار أفعاله، ولكنه لا يستقل بفعله عن القدرة والمشيئة الإلهية وهو نفس ما ذهب إليه "عمر" و"علي" رضوان الله عليهما كما بينا آنفًا (١) كما أراد أن يبين لغيلان خطأه في ضرب الكتاب بعضه ببعض، فأخذ يذكره بالآيات التي ربما غابت عنه في إنكاره للقدر، أو أنه أغفلها عامدًا.

وكذلك في حديث هشام، رأيناه ينبه غيلان إلى عجز الإرادة الإنسانية بغير مدد من الله تعالى، فإن آيات سورة الفاتحة تتضمن دعاء العبد طالبًا الهداية والاستعانة بالله سبحانه، ومن ثم فلا استقلال للفعل الإنساني، بل لا قيام له منفردًا أصلا، فالإنسان عبد مخلوق مربوب عاجز فقير فقرًا ذاتيًا، وهو محتاج دائمًا إلى ربه وخالقه وفاطره عز وجل، ولما كان ربه سبحانه هو الخالق البارئ المصور، فكذلك هو الذي يمد عباده بالقدرة على أفعالهم.

ولكن ظهر مع الأسف تيار ينزع الآيات القرآنية من مواضعها ليضرب كتاب الله عز وجل بعضه ببعض. ولذلك ظهرت موجة عارمة للوقوف في وجه القدريين منذ أن بدأوا بإعلان بدعتهم، فكان "الحسن البصري" يقول: "من كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن"، وعندما سمع "سعيد بن المسيب" أقوال القدرية غضب غضبًا شديدًا حتى هم بالقيام ثم تكلم فقال: تكلموا به؟ أما والله لقد سمعت فيهم حديثًا كفاهم به شرًا، ويحهم لو يعلمون، ثم ردد الحديث بسنده قال: حدثني رافع أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون قوم من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى قال: قلت: جعلت فداك يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعضه" (٢) .


(١) ينظر ص ١٤ و ١٥ من هذا الكتاب.
(٢) الملطي - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص ١٩٦ وهو جزء من حديث طويل أورده الملطي بتمامه.

<<  <   >  >>