للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منه أعاصير النزاع بعد أن كانت العقيدة راسخة في النفوس والقلوب، أمدت المسلمين الأوائل بطاقات هائلة فمضوا في طريقهم لتحقيق الغاية وجعل كلمة الله هي العليا.

ولكن الجدل المنهي عنه أدى إلى انحسار حضارة المسلمين فعكفوا يتجادلون ويتناحرون، فوقفت عجلة المد الإسلامي وتقوقع المسلمون، فسهل على أعدائهم غزوهم في ديارهم.

ويصف "ابن قتيبة" المظاهر الطارئة على المسلمين بقوله: (وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس، وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات؛ فقد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى) (١) .

وهذا هو الدرس التاريخي الذي وعاه شيوخ الحديث والسنة فحذروا من تضييع الجهود في محاولات جدلية سقيمة، ورأوا في تشقيقات المتكلمين بدعًا من ناحية، واستهلاكًا لطاقة تبذل فيما لا طائل وراءه من ناحية أخرى، حيث جاء القرآن بأكمل المناهج في الحجاج العقلي، وفرغ المسلمين إلى العمل. وقد رأينا أهل أفضل القرون كيف استمسكوا بالمنهج الإسلامي الصحيح العقيدة حيث يرى شيخ الإسلام أن أفضل الخلق بعدهم هم المقتدون بعلم وعمل الصحابة وتتحقق هذه المتابعة بصفة خاصة بواسطة علماء الحديث، فهم أهل الآثار النبوية وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر (٢) .

وبمتابعة الأزمنة بعد عصر الحجاج نرى أنه كلما بعد الزمن وقل عدد الصحابة والتابعين بعدهم، بدأت البدع تظهر تدريجيًا، لأن نور النبوة في الأصل كان كمثابة الشمس الساطعة التي طمست الكواكب وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم حجب


(١) ابن قتيبة (لاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة) كتاب عقائد السلف ص
٢٢٤ تحقيق د. النشار وعمار الطالبي منشأة المعارف بالإسكندرية ١٩٧١ م.
(٢) ابن تيمية: بغية المرتاد ص ١١٢.

<<  <   >  >>