ويورد القصة التي شنع بها أهل الكلام على المحدثين من إرسال ملك الروم إلى "هارون الرشيد" وطلب المناظرة وعجز المحدث عنها وسخرية أولئك الفلاسفة، فقد كثر الكلام في التبجح بذلك، وبحكاية أخرى تشبهها. والجواب عليهم في ذلك أنهم أرادوا الاستدلال على أنهم أجدل من المحدثين، فذلك مسلم لهم بل إنهم أجدل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الكل يعلم أنه لم يصدر شيء من الكلام ومجادلة الفلاسفة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من جميع أصحابه رضي الله عنهم ولا اشتغلوا بممارستهم لما رأوه أهل اللجاج. ولا يلزم من ذلك أنهم أقل معرفة بالله ولا أقل نصرة لدين الله. ولو أحبوا الخوض في علم الكلام واشتغلوا بتعلمه وتعليمه لبلغوا فيه ما أرادوا وعرفوا ما عرف المتكلمون وزادوا، ولكنهم أعرضوا إعراض مستغن عنه - واستقراء السير والأخبار تدلنا على أنهم لم يتبعوا هذا الأسلوب في الدعوة، فها هي قصة جعفر بن أبي طالب ومهاجري الحبشة مع "النجاشي" وما راجعه به خطيبهم "جعفر" حين قيل للنجاشي إنهم يقولون في عيسى عليه السلام قولاً عظيمًا، فلما سألهم النجاشي عن ذلك أجابوا بكلام الله تعالى واحتجوا به على صحة عقيدتهم وتلا جعفر على "النجاشي " صدر سور مريم حتى بكى النجاشي وأصحابه وكان ذلك سبب إسلامه، كما أرسل صلوات الله عليه إلى هرقل من كان على صفة المحدث الذي أرسله هارون وهو دحية بن خليفة الكلبي ولم يعلمه ما يجيب به عليهم إن أوردوا عليه ما يدق من شبههم وهم أهل المنطق وسائر الدقائق النظرية، كما بعث إلى النجاشي صاحب الحبشة، وإلى "المقوقس" صاحب الإسكندرية وبعث "أبا عبيدة" إلى البحرين يعلنهم الإسلام، وبعث "عليا" و"معاذً" و"أبا موسى" إلى اليمن، وبعث إلى سائر الملوك للدعاء إلى الإسلام لم يضمنها شيئًا من ذلك مثل كتابته إلى هرقل وإلى كسرى. وخلاصة المنهاج الذي اتبعه الرسول - كما أمره الله عز وجل - هو الاقتصار على مجرد الدعوة إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من إظهار المعاني وتقديم البيانات الواضحة للعقول، إذ قال الله عز وجل تسلية لرسول