وقال ذو النون:(أبى الله أن يكرم قلوب البطالين بمكنون حكمة القرآن).
قلت: والآية سرٌّ عظيم من أسرار القدر، فإن الله سبحانه يطلع على القلوب ويُصَرِّفُها كيف شاء، ومن كمال عدله سبحانه أن يَصْرِفَها عن فهم قرآنه ودينه إذا ظهر من صاحبها تكبرٌ عن أمره وغرور بالباطل وتحد للحق. كما قال تعالى في سورة طه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)}. وكقوله في سورة الصف: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. . . (٥)}. وكقوله في سورة الأنعام: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. . . (١١٠)}.
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تَعْنُونَ فتنةَ الرجل في أهله وماله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تِلْكَ تُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيُّكُم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر التي تَمُوجُ موجَ البحر؟ قال حذيفة: فَأَسْكَتَ القومُ، فقلتُ: أنا. قال: أنت لله أبوك؟ قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:[تُعرض الفِتنُ كالحصير عودًا عودًا، فأىُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصير على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا فلا تَضُرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرضُ، والآخر أسودُ مُرْبادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ معروفًا ولا يُنْكِرُ مُنكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه](١).
وقال النسفي:({الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق. وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو حال، أي: يتكبرون غير محقين، لأن التكبر بالحق لله وحده).
أي: إن يروا كل حجة على وجوب الإذعان لوحدانية الله ودينه وشرعه يججدونها. كقوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (١/ ٨٩ - ٩٠)، كتاب الفتن. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (١٩٩٠) - باب عرض الفتن على القلوب ونكتها فيها. وقوله: "أسود مربادًا": شدة البياض في سواد. "مجخيًا": منكوسًا.