للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من مراتب الهداية: الهداية العامة للخلق. فإن الله سبحانه قد هدى الأشياء والمخلوقات لأسلوب حياتها ولوظيفتها منذ أن خلقها. كما روى الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل] (١).

قال الراغب الأصبهاني رحمه الله: (كُلُّ ما أوجده الله تعالى فإنه هداه لما فيه مصلحتُه كما نبَّه عليه بقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. لكن هدايته للجمادات بالتسخير فقط، كالأشياء الأرضية التي إذا تركت تنحو نحو الأسفل، وكالنار التي تنحو نحو العلوّ. وهدايته للحيوانات إلى أفعال تتعاطاها بالتسخير والإلهام، كالنحل فيما يتعاطاه من السياسة ومن عمل العسل، وكالسُّرْفة (٢) فيما تبنيه من الأبنية، وكالعنكبوت في نسجه) (٣).

وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}.

محاولةٌ ماكرةٌ من فرعون لصرف المسألة الأولى - مسألة الربوبية - وإبعادها، لَمَّا واجَهَهُ موسى عليه الصلاة والسلام بتلك الحجة الدامغة: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. فأعاده موسى بذكاء وحنكة إلى المسألة التي يهرب منها: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}.

قال ابن كثير: (أصح الأقوال في معنى ذلك أنَّ فرعونَ لما أخبرهُ موسى بأنَّ ربَّهُ الذي أرسله هو الذي خلقَ ورزقَ وَقَدَّرَ فهدى، شَرَعَ يحتج بالقُرون الأولى، أي: الذين لم يَعْبدوا الله، أي: فما بالُهم إذا كان الأمرُ كما تقول لم يعبُدوا ربَّك، بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبُدوه، فإن عَمَلَهم عند الله مضبوطٌ


(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم (٢٧٨٩)، وأحمد (٢/ ٣٢٧)، والنسائي في الكبرى (١١٠١٠)، وأخرجه البيهقي في "الصفات" (٢/ ١٢٤ - ١٢٥).
(٢) السُّرْفة: دويبة تتخذ لنفسها بيتًا مربعًا من دقاق العيدان، تضم بعضها إلى بعض باللعاب، ثم تدخل فيه وتموت.
(٣) ذكره الراغب في كتابه: "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين". وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (٢/ ٨٩٣ - ٩٠٧) في بحث القدر، مراتب الهداية والضلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>