في هذه الآيات: تسليطُ اللَّه مردة الجن على ظلمة الإنس ببغيهم، وتنافر الفريقين يوم الحشر وقضاء اللَّه النافذ -في نار جهنم- بِجَمْعِهم، وسنةُ اللَّه في تحميل الرسل مهمة البلاغ للعباد وبيده تعالى أمر هدايتهم، وتثبيت اللَّه تعالى رسوله حتى يبقى على طريق المرسلين ويتأسى بجهادهم.
فقوله:{وَمَنْ يَعْشُ}. أي يتعامى ويتغافل ويعرض. وقد قرأها ابن عباس وعكرمة "ومن يَعْشَ" بمعنى يعمى. فإنه في لغة العرب عَشِيَ يعشى عشًا إذا عَمِيَ، ورجلٌ أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر. وركب فلان العشواء إذا خبط في أمره على غير بصيرة.
وهذه الآية تتصل بقوله سبحانه في أول السورة:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}. قال ابن عباس:(أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به). وقال قتادة:(واللَّه لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن اللَّه تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء اللَّه من ذلك).
والمعنى: أي نواصل لكم الذكر، فمن يعش عن ذلك الذكر بالإعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، أي يتحكم بفكره وفهمه وعقله وقلبه وحركته. قال ابن عباس:(أي ملازم ومصاحب). فيصادر اللَّه بذلك جزءًا من حرية هذا العبد المتهاون بأمر اللَّه بعد أن كرمه بإطلاقها، فيصير يشعر بالقيد والثقل وكأنه أسير حبيس، وكم سمع الناس عن أحوال ومعاناة مَنْ دخل الجني عليه في جسده، فأفسد له حركته وسكونه، وأفقده لذة الطعام والشراب والنكاح، وكم رأى الناس من بؤس حال من سلط اللَّه عليه أعداءه، حتى بدا ذلك واضحًا بتراجع صحته