للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله (١).

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون: آمنا به (٢). وكذا قال الربيع بن أنس (٣).

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾ الذي أراد ما أراد ﴿إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾، ثم ردّوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا، فنفذت الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع (٤) به الكفر (٥).

وفي الحديث أن رسول الله دعا لابن عباس، فقال: "اللَّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" (٦) ومن العلماء من فصل هذا المقام وقال: التأويل يطلق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما: التأويل لمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ [يوسف: ١٠٠] وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] أي: حقيقة ما أُخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله ﷿، ويكون قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ مبتدأ و ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ خبره، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف: ٣٦] أي: بتفسيره، فإن أُريد به هذا المعنى، فالوقف على ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا يكون (٧) قوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ حالًا منهم، وساغ هذا، وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا … ﴾ الآية [الحشر: ٨ - ١٠]، وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)[الفجر] أي: وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.

وقوله إخبارًا عنهم أنهم: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ أي: المتشابه، ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ أي: الجميع من المحكم، والمتشابه حقّ وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، لقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ


(١) أخرجه الطبري بسند صحيح عن ابن أبي نجيح به.
(٢) أخرجه الطبري بسند صحيح عن ابن أبي نجيح به.
(٣) أخرجه الطبري بسند لم يذكر فيه اسم شيخه.
(٤) كذا في (عف) و (ح) و (حم) وفي الأصل: "ورفع"، وفي تفسير الطبري: "ودُفع" وكلها متقاربة.
(٥) أخرجه الطبري من طريق ابن حُميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، والرواية في سيرة ابن هشام ١/ ٥٧٧.
(٦) أخرجه البخاري بلفظ: "اللَّهم علمه الكتاب"، (الصحيح، العلم، باب قول النبي : "اللهم علمه الكتاب" ح ٧٥).
(٧) في الأصل: "فيكون".