للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وكفعل آل فرعون، وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة، والدأب بالتسكين والتحريك كنهر ونهر، هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، كما يقال: لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس:

وقوفًا بها صحبي عليّ مطيهم … يقولون لا تأسف أسى وتجمل

كدأبك من أُم الحويرث قبلها … وجارتها أُم الرباب بمأسل (١)

والمعنى كعادتك في أُم الحويرث حين (٢) أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها، والمعنى في الآية أن الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد، بل يهلكون ويعذبون كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه، ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)﴾ أي: شديد الأخذ أليم العذاب لا يمتنع منه أحد ولا يفوته شيء، بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء وذَلّ له كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه.

﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)﴾.

يقول تعالى: قل يا محمد للكافرين: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ أي: في الدنيا، ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ أي: يوم القيامة ﴿إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال: "يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشًا". فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناسي، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله في ذلك قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)﴾ إلى قوله: ﴿لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (٣)، وقد رواه محمد بن إسحاق أيضًا، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس … فذكره (٤)، ولهذا قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ أي: قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم ﴿آيَةٌ﴾ أي: دلالة على أن الله معز دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته، ومعلِ أمره ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ أي: طائفتين ﴿الْتَقَتَا﴾ أي: للقتال ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهم المسلمون، ﴿وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ وهم مشركو قريش يوم بدر، وقوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير: يرى المشركون يوم بدر أن المسلمين مثليهم في


(١) ديوان امرئ القيس ص ٩.
(٢) في الأصل: "حتى" وهو تصحيف.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق، وسنده حسن إلى قتادة لكنه مرسل، وقد وصله أبو داود كما سيأتي في الرواية التالية.
(٤) أخرجه أبو داود والطبري بسند حسن من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق به (السنن، الخراج، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة ٣/ ١٥٤).