للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

العدد رأي أعينهم (١)، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم، وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا عمير بن سعد يومئذٍ قبل القتال يَحْزِر لهم المسلمين، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة يزيدون قليلًا أو ينقصون، وهكذا كان الأمر. كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا (٢)، ثم لما وقع القتال أمدَّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.

(والقول الثاني): أن المعنى في قوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ أي: ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم؛ أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم، وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس: أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلًا (٣). وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين تسعمائة إلى ألف، كما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله ، لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال: كثير، قال: "كم ينحرون كل يوم"؟ قال: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال النبي : "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" (٤). وروى أبو إسحاق السبيعي، عن حارثة، عن علي ، قال: كانوا ألفًا (٥)، وكذا قال ابن مسعود (٦). والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى [كل] (٧) تقدير كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول، والله أعلم، لكن وجه ابن جرير هذا وجعله صحيحًا كما تقول: عندي ألف، وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجًا إلى ثلاثة آلاف، كذا قال (٨). وعلى هذا فلا إشكال، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال: ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٤]؟

فالجواب: أن هذا كان في حالة والآخر كان في حالة أخرى، كما قال السدي عن مُرّة الطيب، عن ابن مسعود في قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ قال: هذا يوم بدر، قال عبد الله بن


(١) التفسير ٥/ ٢٤٥.
(٢) هذا العدد ورد في صحيح البخاري، المغازي، باب عدة أصحاب بدر (ح ٣٩٥٧).
(٣) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق عطية العوفي به.
(٤) سيرة ابن هشام ١/ ٦١٦، وأخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق به، وسنده مرسل وتشهد له رواية علي بن أبي طالب التالية.
(٥) أخرجه الإمام أحمد (المسند ٢/ ٢٥٩ ح ٩٤٨)، وابن أبي شيبة (المصنف ١٤/ ٣٦٢)، كلاهما من طريق إسرائيل عن جده أبي إسحاق السبيعي به، وصحَّ إسناده محققو المسند.
(٦) أخرجه ابن أبي شيبة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود (المصنف ١٤/ ٣٧٤)، واختلف في سماع أبي عبيدة من أبيه ابن مسعود، ورجَّح الحافظ أنه لم يسمع منه كما في التقريب، وتشهد له رواية علي السابقة.
(٧) في الأصل سقط لفظ: "كل" واستدرك من (عف) و (ح) و (حم).
(٨) التفسير ٥/ ٢٥٠.