للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْعَذَابِ … ﴾ الآية، فالسياق كله في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ أي: تزوجن، كما فسره ابن عباس ومن تبعه، وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، وذلك أنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرًا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك.

(الجواب الأول): فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم.

وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية. فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي أنه خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لنبي الله فقال: "أحسنت أتركها حتى تماثل" (١)، وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه: "فإذا تعالت من نفاسها (٢) فاجلدها خمسين" (٣)، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها؛ فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية، فليجلدها الحد، ولا يثرب (٤) عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها؛ فليبعها ولو بحبل من شعر" أخرجاه (٥)، ولمسلم: "إذا زنت ثلاثًا فليبعها في الرابعة" (٦)، وروى مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا (٧).

(الجواب الثاني): جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حدّ عليها، وإنما تضرب تأديبًا وهو المحكي عن ابن عباس . وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي الظاهري في رواية عنه وعمدتهم مفهوم الآية، وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: "إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير". قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة وأخرجاه في الصحيحين (٨). وعند مسلم قال ابن شهاب: الضفير الحبل. قالوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات من العذاب،


(١) صحيح مسلم، الحدود، باب تأخير الحد عن النفساء (ح ١٧٠٥)، والذي بعده.
(٢) كذا في (ح) و (حم) و (مح) وفي الأصل: "عن نفاسها". ومعنى تعالت: أي: طهرت (النهاية ٣/ ٢٩٣).
(٣) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن علي (المسند ٢/ ٣٥٤ ح ١١٤٢)، وقال محققوه: صحيح لغيره.
(٤) أي لا يوبخ بعد الضرب (النهاية ١/ ٢٠٩).
(٥) صحيح البخاري، الحدود، باب لا يثرب على الأمة إذا زنت (ح ٦٨٣٩)، وصحيح مسلم، الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (ح ١٧٠٣).
(٦) المصدر السابق بعد ١٧٠٣ بحديث.
(٧) أخرجه الإمام مالك بسنده ومتنه (الموطأ، الحدود، باب ما جاء في حد الزنا ٢/ ٨٢٧)، وسنده صحيح.
(٨) تقدم تخريجه قبل حاشيتين.