للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنهم من قال: لا نسلم أن الواو لا تدل على الترتيب بل هي دالة كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء، ثم نقول بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة على الترتيب شرعًا فيما من شأنه أن يرتب، والدليل على ذلك أنه لما طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٥٨]، ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به" لفظ مسلم (١)، ولفظ النسائي: "ابدؤوا بما بدأ الله به" (٢) وهذا لفظ أمر، وإسناده صحيح، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعًا، والله أعلم.

ومنهم من قال: لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب، فقطع النظير عن النظير، وأدخل الممسوح بين المغسولين، دلّ ذلك على إرادة الترتيب، ومنهم من قال: لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله توضأ مرة مرة، ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (٣).

قالوا: فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبًا فيجب الترتيب، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب، ولا قائل به، فوجب ما ذكرناه.

وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ: ﴿وأرجلِكم﴾ بالخفض (٤)، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين، لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس. وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح فقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا حميد قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما، فقال أنس: صدق الله، وكذب الحجاج، قال الله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما (٥). إسناد صحيح إليه.

وقال ابن جرير: جدثنا علي بن سهل، حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل (٦). وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن ميسرة الخراساني (٧) عن ابن جريج، عن


(١) صحيح مسلم، الحج، باب صفة حجة النبي (ح ١٢١٨).
(٢) السنن الكبرى، الحج، باب الدعاء على الصفا (ح ٣٩٦٨)، وصححه الحافظ ابن كثير.
(٣) أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب به بمعناه بلفظ: "هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم"، (السنن، الطهارة، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا ح ١٣٥)، ولعل الحافظ ابن كثير اعتمد على رواية لسنن أبي داود غير التي بين أيدينا.
(٤) وهي قراءة متواترة كما أن قراءة النصب متواترة.
(٥) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وصحح سنده الحافظ ابن كثير.
(٦) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وصحح سنده أيضًا الحافظ ابن كثير.
(٧) كذا في الأصل و (حم): "محمد بن ميسر"، وفي تفسير الطبري: محمد بن قيس. قال أحمد شاكر: أخشى أن يكون محرفًا (تفسير الطبري ١٠/ ٥٨).