للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رسول الله قال: "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" (١) يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)[الأنبياء: ٢٥] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ الآية [النحل: ٣٦]، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ يقول: سبيلًا وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل اللّه فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره؛ التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام (٢). وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأُمة ومعناه: لكل جعلنا القرآن ﴿مِنْكُمْ﴾ أيتها الأُمة شرعة ومنهاجًا؛ أي: هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ﴾ أي: جعلناه، يعني القرآن، شرعة ومنهاجًا؛ أي: سبيلًا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد (٣).

والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة، لما صح أن يقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.

وقال عبد اللّه بن كثير: ﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾ يعني من الكتاب (٤).

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثم قال تعالى: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة.


(١) صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، باب قول الله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ … ﴾ [مريم: ١٦] (ح ٣٤٤٣)، وصحيح مسلم، الفضائل، باب فضائل عيسى (ح ٢٣٦٥).
(٢) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة به.
(٣) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بنحوه.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير.