للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي: فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق المعادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة والأدلة الدامغة.

وقال الضحاك: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ يعني: أمة محمد (١)، والأول أظهر.

وقوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه، ثم قال: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أي: واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كذبة كفرة خونة، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع اللّه، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي: فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ أي: إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)[يوسف: ١٠٣]. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية [الأنعام: ١١٦].

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة. عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد اللّه بن صوريا وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود، وأشرافهم، وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ، فأنزل الله ﷿ فيهم ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ إلى قوله: ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (٢).

وقوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾ ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة اللّه، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والبهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم ["جنكزخان"] (٣) الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر


(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن من طريق أبي سنان عن الضحاك.
(٢) أخرجه الطبري بسند حسن من طريق ابن إسحاق به، وأخرجه ابن أبي حاتم معلقًا عن ابن إسحاق به.
(٣) في (مح): شنكزخان، وفي الأصل: "سكرخان" والصواب المثبت.