للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له: الشاس بن قيس: إن ربك، بخيل لا ينفق، فأنزل اللّه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (١). وقد ردَّ اللّه ﷿ عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية [النساء: ٥٣، ٥٤]، وقال تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢].

ثم قال تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي: بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)[إبراهيم] والآيات في هذا كثيرة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول اللّه : "إن يمين اللّه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه" - قال: - "وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض". وقال: يقول الله تعالى: "أنفق، أنفق عليك" (٢). أخرجاه في الصحيحين: البخاري في التوحيد عن علي بن المديني، ومسلم فيه عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق به (٣).

وقوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ أي: يكون ما آتاك اللّه يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا وعملًا صالحًا وعلمًا نافعًا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانًا، وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء، وكفرًا أي تكذيبًا، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٤] وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢)[الإسراء] وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يعني: أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائمًا، لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك.

وقال إبراهيم النخعي: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾، قال: الخصومات والجدال في الدين، رواه ابن أبي حاتم (٤).

وقوله: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ أي: كلما عقدوا أسبابًا، يكيدونك بها، وكلما


(١) سنده صحيح وأخرجه الطبراني من طريق ابن إسحاق به (المعجم الكبير ١٢/ ٦٧ ح ١٢٤٩٧)، وقال الهيثمي: ورجاله ثقات (مجمع الزوائد ٧/ ٢٠).
(٢) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (السند ٢/ ٣١٣) وسنده صحيح؟
(٣) صحيح البخاري، التوحيد، ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: ٧] (ح ٧٤١٩)، وصحيح مسلم، الزكاة، باب الحث على النفقة ح (٩٩٣).
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح من طريق العوام بن حوشب عن إبراهيم النخعي.