للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء" (١) هكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بإسناده نحوه (٢)، وهذا إسناد صحيح.

وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ كقوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)[الأعراف: ١٥٩] وكقوله عن أتباع عيسى: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: ٢٧] فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله ﷿: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ الآية [فاطر: ٣٢، ٣٣] والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأُمة كلهم يدخلون الجنة.

وقد قال أبو بكر بن مردويه: حَدَّثَنَا عبد الله بن جعفر، حَدَّثَنَا أحمد بن يونس الضبي، حَدَّثَنَا عاصم بن عدي، حَدَّثَنَا أبو معشر، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله ، فقال: "تفرقت أُمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار، وواحدة في الجنة، وتفرقت أُمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة، وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أُمتي على الفرقتين جميعًا واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار" قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن يزيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله تلا فيه قرآنًا، قال: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)﴾ إلى قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ وتلا أيضًا قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)[الأعراف: ١٨١] يعني: أُمة محمد (٣). وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه وبهذا السياق، وحديث افتراق الأُمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة.

﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧)﴾.

يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام.

قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حَدَّثَنَا محمد بن يوسف، حَدَّثَنَا سفيان، عن إسماعيل،


(١) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٢٩/ ٤٤٢ ح ١٧٩١٩) وصحح سنده محققوه، وأخرجه الحاكم من طريق سالم بن أبي الجعد به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٣/ ٥٩٠).
(٢) سنن ابن ماجة، الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم ح (٤٠٤٨) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ح (٣٢٧٢)، وكذا الحافظ ابن كثير.
(٣) أخرجه الآجري (الشريعة ص ١٦)، وأبو يعلى (المسند ٦/ ٣٤٠ ح ٣٦٦٨)، كلاهما من طريق أبي معشر به قال الهيثمي وفيه أبو معشر نجيح فيه ضعف (مجمع الزوائد ٧/ ٢٦٠).