للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)﴾.

قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ (١): لا هنا زائدة، وقال بعضهم: زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

فأدخل "إن" وهي للنفي على ما النافية لتأكيد النفي (٢)، قالوا: وكذا ههنا ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ مع تقدم قوله: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١] حكاهما ابن جرير وردهما، واختار أن منعك مضمن معنى فعل آخر، تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.

وقول إبليس لعنه الله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧٢] فشذّ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ، قبحه الله في قياسه، ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة، ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله : "خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" هكذا رواه مسلم (٣).

وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود، حدثنا نُعيم بن حماد، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله : "خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال: باليمن (٤). وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح: "وخلقت الحور العين من الزعفران".

وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شوذب، عن


(١) كذا في (عش) و (حم) و (مح) وفي الأصل: "أن لا تسجد" مقتصرًا على الشاهد.
(٢) أي أن "لا" للتأكيد وهو أحسن من قول أنها زائدة.
(٣) الصحيح، كتاب الزهد، باب في أحاديث متفرقة (ح ٢٩٩٦).
(٤) أخرجه مسلم من طريق عبد بن حميد عن عبد الرزاق به بدون الشق الأخير: وخلقت الحور العين من الزعفران (المصدر السابق)، وهذه الزيادة لعلها من خطأ نعيم بن حماد لأنه صدوق كثير الخطأ (التقريب ص ٥٦٤)، لأن طريق عبد بن حميد ليس فيه هذه الزيادة.