للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أُبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه، فدخلوا في الإسلام ظاهرًا، ثم كلما أعزَّ الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى: ﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)﴾.

يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: ﴿ائْذَنْ لِي﴾ في القعود ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾ بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم. قال الله تعالى: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا؛ كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله ذات يوم وهو في جهازه للجدِّ بن قيس أخي بني سلمة (١): "هل لك يا جدّ العام في جلاد بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهنَّ. فأعرضَ عنه رسول الله وقال: "قد أذنتُ لكَ" ففي الجدِّ بن قيس نزلت هذه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ الآية (٢) أي: إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم. وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجدِّ بن قيس (٣)، وقد كان الجدُّ بن قيس هذا من أشراف بني سلمة.

وفي الصحيح أن رسول الله قال لهم: "من سيدكم يا بني سلمة؟ " قالوا: الجدُّ بن قيس على أنا نبخله. فقال رسول الله : "وأي داء أدوأ من البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بِشرُ بن البراء بن معرور" (٤).

وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أي: لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.

﴿إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)﴾.

يُعلِم نبيَّه بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من حسنة، أي: فتح وظفر على


(١) هو الجد بن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن غنم الأنصاري، وقال ابن عبد البر: إنه تاب فحسنت توبته، ومات في خلافة عثمان (الاستيعاب ١/ ٢٥٤ - ٢٥٥).
(٢) أخرجه الطبري من طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق، وسنده مرسل، وذكره ابن هشام (السيرة النبوية ٤/ ١٥٩).
(٣) قول ابن عباس لم يصرح باسم الجد بن قيس فيما أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق ابن أبي طلحة عنه، وقول مجاهد أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عنه، مختصرًا.
(٤) أخرجه البخاري معلقًا (الصحيح، العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق قبل حديث رقم ٢٥٥٠) ووصله الحافظ ابن حجر بسنده الطويل من حديث كعب بن مالك، ثم صحح سنده (تغليق التعليق ٣/ ٣٤٧).